بعد أن انتشر مقطع فيديو ظهرت فيه عناصر من قوات الدعم السريع يحملون حطام إحدى هذه الطائرات المسيّرة الإيرانية الصنع، تظهر مخاوف من عودة النظام السوداني السابق بكل تفاصيله للساحة السودانية ومعه حلفاء الأمس الذين كانوا سببًا في عزلة السودان الدولية ووضعه في قائمة العقوبات الأممية والدولية لثلاثة عقود.
فقد أوردت وكالة “بلومبرغ” أن إيران تقوم بتزويد الجيش السوداني بشحنات من الأسلحة الإيرانية وبطائرات مسيّرة من طراز “مهاجر 6″ التي تصنع في إيران. مما يوضح الاهتمام الإيراني بالسودان، حيث تمتد حدود السودان البحرية إلى حوالي 670 كم، وبالسيطرة على الموانئ السودانية، ستحصل إيران وحلفاؤها على موطئ قدم في ممر تجاري بالغ الأهمية بالقرب من اليمن والمملكة العربية السعودية وإسرائيل.
وتقدم الجيش في المعارك في أم درمان والخرطوم بحري بعد استلام أسلحة جديدة “غير محددة المصدر” احدث تغييرا في استراتيجيته الجيش العسكرية والسياسية ومثل تحولا في مسار الحرب, ففي خطاب ألقاه أمام ضباط وجنود الفرقة 11 مشاة في مدينة خشم القربة شرقي السودان، وجه البرهان دعوات للجيش والحركات المسلحة المتحالفة بتنفيذ هجوم واسع النطاق ضد قوات الدعم السريع، بهدف طردها من جميع المناطق التي تخضع لسيطرتها. هذا التحول جاء بعدما اتبع الجيش طوال الفترة الماضية استراتيجية الدفاع عن النفس بدل الهجوم على الدعم السريع. و في سياق الحلول السياسية و المفاوضات لوقف الحرب، شدد البرهان في خطاب له في كسلا على ضرورة أن تحدث هذه المفاوضات داخل السودان وأنها لا يمكن أن تتم عبر السفر للقاء أي جهة خارجية في اشارة للقاء مزمع عقده مع رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” عبد الله حمدوك, وقال أن مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا“إيغاد“، لا تمثل إرادة الشعب السوداني أو تتداخل مع شؤون السودان. وقال “لن تفرض علينا أي جهة خارجية حلولاً.”
ومع استمرار الحرب وعدم وجود حل في الأفق، زادت التدخلات الدولية التي تبحث عن مصالح لها في السودان والتي تراهن على الفصائل المختلفة، بغية كسب المزيد من النفوذ في بلد يسوده الاضطراب. وظهرت سيطرة محور الحركة الإسلامية “الكيزان” بقوة ومعه خصوصا بعد تعليق منبر جدة وتوقف التفاوض لإنهاء الحرب ورفض السودان لمبادرة الإيجاد والتي قال عنها” إنها منحازة للدعم السريع وقائده الفريق محمد حمدان دقلو.”
فقائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان الذي جعل من شرق البلاد عاصمته، وتحديدًا في بورسودان المطلة على البحر الأحمر، تطاله اتهامات بأنه مدعوم من جماعة النظام السابق عمر البشير وقياداته الإسلامية وبأنهم هم العقل المدبر للحرب. وهذه الجماعة التي تسمى بـ“الكيزان” ما زالت ترتبط بعلاقات مع إيران وكان مُنظرها وقائدها السابق حسن الترابي من الموالين لها.
وتاريخياً ودائمًا ما ربطت علاقة قوية بين كيزان السودان وباقي التنظيمات الإسلامية في المنطقة مثل حماس والقاعدة وحزب الله، وفي السابق كانت العلاقة وثيقة بين إيران والسودان، الذي كان تحت حكم الحركة الإسلامية السودانية التي كانت بزعامة الترابي والرئيس البشير منذ عام 1989، واستمرت هذه العلاقة حتى يناير 2016، حيث انقطعت في “العلن” نتيجة لاقتحام سفارة السعودية في طهران. الآن، بعد التسوية بين الرياض وطهران، انحسرت هذه التوترات، واستُؤنفت العلاقات القائمة على المصالح بين إيران وشركائها التقليديين في السودان من جديد.
وفي الواقع، تظل احتمالية استمرار هذه العلاقة بصورة غير رسمية قائمة حتى في وقت التوترات، حيث أن العديد من الأفراد المنخرطين في الحركة الإسلامية لديهم اتصالات خارج السودان، بما في ذلك مع قطر وإيران، حتى خلال فترة برود العلاقة بين طهران والخرطوم. مؤخرًا، ألقت السلطات المصرية القبض على رجل الأعمال عبد الباسط حمزة في القاهرة، وهو أحد المقربين من الرئيس السوداني السابق عمر البشير وحزبه. وأكدت وزارة الخارجية الأمريكية أن حمزة يُصنف كإرهابي عالمي، وأشارت إلى أنه قد قدم دعمًا ماليًا لحركة حماس بما يقارب 20 مليون دولار، مما يشير إلى أن علاقات السودان مع الجماعات المسلحة الخارجية لم تنقطع تمامًا.
وفي خطوة اعتبرها الكثيرون بمثابة إحياء للعلاقات القديمة، صدر بيان عن الحكومة السودانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يفيد بأن الدولتين إيران والسودان “ناقشتا استعادة العلاقات الثنائية بين البلدين، وتسريع خطوات إعادة فتح السفارات بينهما“، ونشرت وسائل إعلام أن: “طهران تلقت وعدًا من قيادات محسوبة على الحركة الإسلامية بالتعاون معها وتسهيل مد نفوذها في البحر الأحمر إن قدمت للجيش دعمًا عسكريًا سخيًا يساعده على الصمود في الحرب.”
وما يجعل المستقبل في هذه الحالة أكثر قتامة هو تاريخ السودان الذي احتضن متطرفين وجهاديين من أقصى اليمين وأقصى اليسار، فقد تجمع في السودان فترة النظام السابق كل من أسامة بن لادن، زعيم (القاعدة)، حماس، حزب الله، وكارلوس الثعلب. وكانت سببًا في وضع السودان في قائمة الدول الداعمة للإرهاب.
وبمقارنة السيناريوهات الموجودة في المنطقة، وفى أماكن أخرى شهدت تمدد النفوذ الإيراني، تبرز هنا مخاوف من تحويل الجيش السوداني الإسلامي الانتماء إلى مجموعة ميليشيوية شبيهة بـ “الحشد الشعبي العراقي” تأتمر بأمر قائدها داخليًا وخارجيًا لإيران مصدر التمويل والدعم العسكري، وتزداد هذه المخاوف خصوصًا بعد دعوات الجيش السوداني تسليح المواطنين والانتظام “للمقاومة الشعبية” وفتح المجال أمام الأفراد لشراء السلاح.
ويُعتبر معقل الجيش السوداني في الشرق المنطقة الأكثر عرضة لخطر التمدد الإيراني، فوجود البجا ودعمها للحركة الإسلامية وللجيش يعتبر من أبرز العوامل التي تجعل بورسودان مكانًا مريحًا وبداية جيدة للسيطرة على الميناء. فرئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة الناظر محمد الأمين ترك هو عضو في حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، وحاليًا هو واحد من الموالين للجيش السوداني وللفريق أول عبد الفتاح البرهان.
فقبائل البجا، في شرق السودان واجهت تحت حكم الرئيس المعزول عمر البشير لإهمال وتجاهل مطالبها المشروعة، مثل إصلاح الوضع الاقتصادي وتحقيق التمثيل السياسي في المنطقة الشرقية. وقد تحولت إلى تحدي بارز يواجه الحكومة الانتقالية بعد الإطاحة بالبشير، وذلك قبل نشوب الصراع بين الجيش والدعم السريع. حيث أكدت القبائل مرة أخرى على انعدام تمثيلها الفعّال في مؤسسات الحكم الانتقالي.
و قاد محمد الأمين ترك، رئيس “المجلس الأعلى لنظارات وعموديات قبائل البجا“، عدد من قبائل شرق السودان التي ترفض مسار السلام في اتفاق جوبا، الذي جرى بين الحكومة الانتقالية السابقة والحركات المسلحة. و كان الرفض بسبب تهميشهم واختيار جهات لا تمثل الإقليم للتفاوض معها. وقد هددت تلك القبائل بتأسيس دولة البجا في الشرق، حيث أعلن المجلس نيته “بصدد إعلان دولة البجا“، مصحوبًا بجدول زمني جديد لإغلاق محكم في شرق البلاد.
وتصاعدت حدة الصراع بين الشرق والمركز اكثر من مرة مع إغلاق ميناء بورتسودان والطريق إلى الخرطوم. بل وقد قام المجلس بإغلاق الميناء في سبتمبر 2022 احتجاجا على توقيع “الإتفاق الإطاري” المدعوم دوليا بين المجلس المركزي للحرية والتغيير “قحت” والمكون العسكري، حيث اتهموا الحكومة بسوء تمثيلها وإهمال مطالبهم.
بالإضافة إلى البجا، فإن هناك مجموعة من الكتائب العسكرية التابعة للجيش ذات طابع إسلامي، فمثلا تشكل قوات العمل الخاص وهي تابعة للجيش، مكونة من الاستخبارات والصاعقة والقوات الخاصة، و تكتلات إسلامية نشطة في مناطق مثل ولاية كسلا، والخرطوم حيث تنشر صورًا على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر تواجدها في أمدرمان ولصور تنفيذها لعمليات في شندي شمال الخرطوم. ويشارك عدد من الكتائب، مثل المقاومة الشعبية السودانية في ولاية البحر الأحمر، في الزخم السياسي الذي يجمع بين قيادات عسكرية وسياسية لها نفس الاهتمام الإسلامي. تؤكد على جاهزية قوات الاحتياط والمستنفرين للعمل في مختلف المناطق، مع التركيز على حماية البوابة الشرقية.
وسواء كانت حالة السودان إعادة لسيناريوهات حصلت في المنطقة أم سيناريو مختلف عن سابقاته، فمن المهم أن نعرف أن وجود جماعات عسكرية متطرفة في السودان وتعزيز مكانتها لن يتوقف تأثيره داخل الحدود بل سيكون نقطة ستنطلق منها لما حوله.
(*) صحفية سودانية ومقدمة برنامج “بين نيلين” في قناة (الحرة)
( – ) نقلا عن (Washintoninstitute)