حوالي ستين عاما، لم يتوقف الإقتتال بين السودانيين في القرن الثامن عشر، والتاسع عشر الميلادي ؛ منذ أن صعد الهمج إلي هرم سلطة الفونج، وحتى احتلال جيوش الغزاة لسنار وغيرها من الحواضر ؛ أي منذ العام 1862م وحتى سنة غزو محمد علي باشا للبلاد في 1821م سبقتها حروبات الفونج مع الفور والفونج مع النوبة والفور مع قبائل بحر الغزال ، و إندلعت خلالها حروبات الهمج مع أعدائهم وحروباتهم فيما بينهم وصولا للحرب الشاملة التي أعقبت ذلك “حرب الجميع ضد الجميع “حرب القيمان”: التي هيأت الظروف للاعداء الغزاة، فاهتبلوا الفرصة واحتلوا ارضنا وقهروا شعوبنا، وطيلة سنوات الإحتلال الستين استمرت المقاومة وواصل الغزاة قتلنا باستخدام أيادي وسلاح السودان ضد بعضهم حتى تفجرت الثورة المهدية التي وحدت كتلة كبيرة من السودان وهزمت الغزاة, ثم لم تستنكف الدولة وليدة الثورة من سفك شلالات الدم السوداني وفي السنوات التي تلت هزيمتنا بواسطة المستعمر الانجليزي للثورة المهدية بمقتلة كرري في العام 1898م وحتى الاستقلال في العام 1956م (حوالي الستين عاماً ) لم تتوقف المقاومة ايضا وواصل المستعمر في قتلنا بتوظيف بعضنا ضدنا حتى سالت دماؤنا في بقاع كثيرة من أرض الوطن الواحد في الجزيرة ودارفور وفي الجنوب وفي جبال النوبة, ولم تتواني أو تتردد النخبة الوطنية التي استلمت السلطة من المستعمر في القيام بذات المهمة ضد مواطنيهم منذ تمرد “توريت” في العام 1955م وحتى تمرد “حميدتي” في العام 2023م .
ماهو الدرس الذي تعلمناه؟ وأين خلاصة التجربة؟ لا شئ للاسف فها نحن نغوص مرة أخرى في لغة الكراهية والتعصب للقبيلة ووهم ان حلول مشاكل البلاد تبدأ بمحو وازالة دلائل الإختلاف والفروقات الثقافية بدلا عن القبول بهذا التمايز والإحتفاء به بل وجعله مصدر ثراء وغني، إن لغة الكراهية المنطلقة من التمايز والفروقات بين القبيلة والأخرى أو تعظيم إقليم وتحقير غيره ليست هي السبب في الحرب بالطبع اذا ما توصلنا ان الدافع الرئيس لكل الحروب هو سرقة الثروات والاستحواذ على السلطة لضمان استمرار الاستنزاف المستمر للوطن كارض ولإنسانه لكن لغة الكراهية هي دينمو الحرب التي تمنحها قوة الدفع الذاتي والإستمرار و الإنتشار ويكسب بها حزب الحرب أرضاً جديدة مع كل مغرب شمس..
لغة الكراهية هي عمل دعائي مقصود ومنظم لفصل الحرب عن شخوص مدبريها الرئيسيين والمستفيدين من ورائها والصاق تهمتها بقبيلة أو باقليم أو جهة ولإسباغ المشروعية علي الافعال الدنيئة والممارسات القبيحة والدنسة التي تحدث اثناءها طالما كان الضحايا ينتمون لجماعة أخرى أو قبيلة أخرى أو اقليم آخر.لغة الكراهية ضد اي قبيلة سودانية المقصود منها تزييف طبيعة الصراع وحقيقته، وهي الغبار الكثيف الذي يملأ العيون ويغبش الرؤية وهي السراب الذي يأخذك إلى وديان العطش ولن تنجو، لأن البحث عن الحلول بازالة المختلف والذي لا يشبهنا هو سعي مهلك ولا نهاية له بطبيعة الحياة وطبيعة البشر فلا يوجد اقليم لا تقطنه قبائل بينها فروقات ولا توجد قبيلة ليس بها بطون وجماعات لها تمايز في المظهر والإرث والفخر واللغة وطرائق التعبير.. ولا يوجد حي او قرية او فريق يتطابق فيه الناس بذلك الخيال السينمائي الخدّاع فإلى اين سوف تقودنا دعوات الكراهية؟ أكثر من انقسام الاشقاء والشقيقات في الأسرة الواحدة بل انقسام الفرد الذي يضم بين جنبيه انتماء متنوعا وسودانيا صميما؟ إن كل ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من الإنقسام المستمر طالما ظل منهج من يدعون أنهم يعالجون المشاكل والأزمات الوطنية ولغتهم في المنابر هى البتر فلن يتبقي للوطن جسد حي.
ورغم كل ما سبق من المآسي والمرارات فالذاكرة الوطنية تحتفظ بسجل طويل من التوحد والتناصر والتسامي على الجراح، فالسودان من كل القبائل والسحنات واللغات قد توحدوا حقا خلف رايات المهدي الخفاقة الظافرة بالثورة على المحتل والسودان واصل المقاومة والجهاد ضد المستعمر الجديد في كل الاقاليم وكانت بدايتها من جبال النوبة في انتفاضات متعددة حتى وحد السلطان عجبنا القبائل وخلفته ابنته الأميرة مندي، وثار الشلك والنوير في الجنوب وفي دارفور نهض غاضبا الفكي عبدالله السحيني وغيره من الثوار، وقاوم ود حبوبة في الجزيرة حتى تكاملت المقاومة الوطنية بحركة اللواء الأبيض ومن لم يحب القائد علي عبداللطيف؟ ان التاريخ يسجل على هذه الارض حقبا ضاربة في القدم من الازدهار والسلم لا زالت صروحه واهراماته شاهدة على النهضة, وصنع السودان في المدن والمراكز الحضرية الحديثة حياة باهرة رغم عسف الحكام اجانب ووطنيين درسوا وعملوا معا وفرحوا وحزنوا مجتمعين
أهم تكتيك يستخدمه الناشرون للغة الكراهية هو البداية من تحقير التاريخ الوطني والإزراء به وتتفيهه، وإرفاق اخفاق عند ذكر كل انجاز لشخصية وطنية لامعة وتعظيم الاجنبي المستعمر وانكار كل فترات الاخاء بين السودانيين والنضال المشترك وتسطير الملاحم في المناصرة والتعاضد وتحويل النافذة الكبيرة المطلة على عهود خير السودان لبعضهم والاخلاق السمحة لعموم السودان بمختلف جهاتهم وقبائلهم إلى خرم صغير لا يريك إلا حوادث الحقد والكراهية والمرارات, وبقدر ما نحتاج إلى قراءة السياقات التاريخية والظرفية التي أدت إلى قهر البعض للبعض وظلمهم فإننا بحاجة إلى التمعن في تلك العفوية التي باشر بها السودان الغريب المستوطن من اقليم إلى اقليم آخر او من بلد إلى بلد بل وشملت السماحة الوطنية في طول البلاد وعرضها حتى الغرباء الاجانب واحتضنتهم واكرمتهم وطبعتهم بطباعنا وعاداتنا، لكن الذين يركضون بالبغضاء من منبر لآخر لا يريدون ان يروا غير انعكاس ذاتهم الدنيئة وودوا لو انهم يمحون من ذاكرتنا هتاف الثوار في بورتسودان في ديسمبر الشامخ “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور” ومبادلة جماهير نيالا الهتاف لهم ثم صعود قطار عطبرة بالثوار من كل السحنات والقبائل إلى ميدان الوطن بالمحبة وحدها لا سواها.
(*) كاتب سوداني