في ذكرى ثورة اكتوبر بالعام 2021، خرج السودانيون للتعبير عن امتعاضهم من هشاشة النظام شبه المدني المتفق عليه في 2019 والمعزز بإتفاقية جوبا 2020، في محاولة الإلتفاف على مطالبهم المشروعة في دولة الحرية، والسلام والعدالة، حيث يحتفظ النظام القديم بالسلطة (مجلس السيادة) وتتحاصص احزاب التوالي بالحكومة (حكومة حمدوك) ومن ثم يتم إضافة حركات مسلحة إليها كشريك أصغر.
هذا الوضع الموسوم بحالة عدم اليقين، حيث الصراع المحموم على السلطة والحكومة وحدود صلاحيات كل منهما، جعل الصراع على الحكومة يكون مقدماً على غيرها، حيث تعاظمت حالة الاستقطاب، وتوجت بإعلان سياسي جديد يعيد تشكيل تحالفات الحاضنة السياسية، وسوف نرى لاحقاً تدخل مكونات السلطة لصالح احد اطراف الصراع على الحكومة، يعرف بإنقلاب الـ25 اكتوبر 2021.
هذا التحرك في المكونات السياسية للحكومة شجع اطرافاً بتحالف السلطة العسكرية، لإنتهاج نفس التوجه بتغيير تركيبتها، فيما يعرف لاحقاً بحرب الـ15 ابريل 2023، والتي سوف تصل بالسودان لمستويات من الهشاشة، سمتها اكبر نسبة نزوح بالعالم ومجاعة وتدمير لما تبقى من البنية التحتية، وتراجع مفزع للاقتصاد.. الخ، كل ذلك يجعل من التدهور المريع الذي ابتدر في الـ21 اكتوبر 2021 مجرد تحرك أولي للأزمة.
لقد حزم جميع اطراف السلطة والحكومة بالـ2019 مواقفهم، حيث حدودها وموضوعها القضاء على الآخر، ومثلما كان الشعب المتضرر الاوحد من ائتلافهم، يواصل السكان في دفع الثمن من صراعهم، ولا اعلم أمة فقدت الأمل بتاريخها وحاضرها ومستقبلها كما حال السودانيين الآن وكل الاطراف المتصارعة سياسياً وعسكرياً تتفق على استبعاد أولوياته، والمفزع في الأمر أن كل ذلك يحدث بعد أن قال كلمته وسمعها العالم أجمع بالعام 2018.
بعض السودانيين يواجهون صعوبة في فهم عدوان الدعم السريع وتخاذل الجيش في حمايتهم، وتعسر قوى الإطاري وعزوف قوى التغيير الجذري من تشكيل موقف سياسي يعتمد عليه، وكذلك حالة عدم مبالاة حلفاء جميع الاطراف وعدم إقدامهم على أي خطوة لإنهاء الأزمة (إنها السياسة)، هذا هو جوهر الصراع بين كل تلك القوى، حيث الصداقة مؤقتة والمصالح دائمة.
ومن أراد أن يفهم غاية الصراع، عليه أن ينظر لما حدث في (شرق الجزيرة) من إبادة جماعية وتهجير قسري واغتصابات وسلب للممتلكات وغيرها من الفظائع بقيادة الدعم السريع وبجنوده، وتخاذل مفضوح من الجيش، حيث تحتفل قوى الإطاري بذكرى ثورة اكتوبر وتندد بإنقلاب اكتوبر، وتجتهد قوى التغيير الجذري في ربط ديسمبر باكتوبر.
وبينما تتوارد التسريبات عن عدوان الدعم السريع على (الجزيرة) بحسرة ووجع مربك، ظلت أسئلة تجوب في ذهني دون توقف: لماذا لا يهتم احد؟، ما الذي يجعل هذا الشعب يثق بطرف؟، وهل عودة الاطراف للطاولة وانتاج تجربة 2019-2021 خلاصاً؟، ولماذا لم تنجح؟، وهل انتاج تجربة 2021-2023 خلاصاً؟، ولماذا لم تصمد؟ هل هناك فرصة لإعادة السلطة والحكومة للشعب كما اراد؟، وكيف؟.
لم تعد اجندة الاطراف كما كانت في 2018 أو 2021 أو 2023، هذا التحول والتدهور بالغايات يظهر بوضوح في مجزرة التطهير العرقي برفاعة وأزرق وتمبول وغيرها من قرى شرق الجزيرة، حيث دخل الصراع مرحلة عنوانها إزالة الخصوم السياسيين وإبادة حواضنهم الاجتماعية المزعومة، مما يجعل أن ما من أحد في مأمن من الاستقطاب و الاستهداف وكل سوداني هدف مشروع لاحد اطراف النزاع عسكرياً أو سياسياً.
إن انزلاق الاوضاع بالسودان، لا سيما الإنسانية لهذا المستوى المريع، مسؤولية جميع الاطراف السياسية والعسكرية التي اتفقت على تغييب (المجموعات القاعدية) والدخول في صراع مفتوح من غير سقوفات أخلاقية من أجل الوصول لوصف الشريك الاكبر بالسلطة والحكومة، في إمتداد سافر لروح سياسات نظام الـ30 يونيو 1989، الذي يفضل تقسيم البلاد واشعال الحروب والإبادة عن التنازل من هذا اللقب.
يظن بعض البسطاء أن هذه المجموعات المتنازعة سياسياً وعسكرياً كتل صماء ومتماسكة تنظيمياً، وهذا التوقع ناتج عن أمنيات لا يصدقها الواقع، حيث المعارك مبيتة، وهنا تكمن الخطورة الممتدة لتدحرج كرة الثلج بصورة تجعل الحياة عبارة عن موت مطلق وفناء مقيت، وهذا ما أراده (حسن الترابي) بمشروع التوالي السياسي، وجوهره تغييب إرادة السودانيين عن الحكم والغاية تبرر الوسيلة.
هناك من يأمل بأن تثمر بعض التحالفات السياسية أو المدنية في إيقاف العمليات العسكرية دون المساس بالأهداف الحزبية (الجوهرية)، وهنا أعني حتى تلك التي تستتر بقوات دفاعية وأمنية ومليشيات أو عصابات شبه مدنية، هذه الطوباوية أصبحت سمة لمعظم القيادات الوسيطة المرتبطة بقيادات سياسية ايدلوجياً، ولا تعلم بأنها توغل في دعم استمرار النزاع العنيف وإن كانت تتشدق اعلامياً برفضها.
بعد أن ظهر الوجه الحقيقي للحرب لابد من النظر في تركيبة الفاعلين السياسيين وخارطة التحالفات الإقليمية والدولية التي لديها مصلحة في استقرار السودان، بدءاً من العملية السياسية وصولاً لإتفاق وقف ملزم لاطلاق النار وتشكيل نظام منحاز للسكان بغض النظر عن ما يميزهم.
قد لا يسعف المثقفين وحلفاءهم بالخارج التعامل مع نظرية الحكم التقليدية التي تعتمد على تحريك جزئي للقاعدة الاجتماعية للحكومة، مع الاحتفاظ بالسلطة في إطار شلليات ضيقة (دولة عميقة معزولة اجتماعياً)، وسوف يكون من المحتم إنفتاح السلطة والحكومة على كافة المكونات الاجتماعية.
(*) باحث بمعهد السياسات العامة- السودان