استدعاء إيران يمكن أن يزيد من تعقيد التفاعلات الإقليمية وتشابك ملفي غزة والخرطوم مما يعني في المحصلة استمرار إرادة الحرب
ربما يكون من المتفق عليه أن الصراع المسلح الراهن بين الأطراف السياسية الداخلية، والذي يتجه نحو حرب أهلية شاملة، بات مهدداً كبيراً للإقليم على الصعيد الأمني، بل وعلى الصعيد السياسي أيضاً، كما أصبح مثيراً لفزع نظم سياسية تملك حدوداً مباشرة مع السودان، بالنظر إلى الانعكاس المباشر للفوضى السودانية على التفاعلات الداخلية في دول عدة، فضلاً عن النزوح البشري بالطرق الشرعية وغير الشرعية، والذي يتحول إلى أعباء اقتصادية على دول لديها بالأساس تحديات اقتصادية حرجة.
على الصعيد العربي فإن الفاعلية العسكرية لـ”الإخوان المسلمين” في السودان لا بد أن تكون مقلقة، بخاصة أن تنظيم الحركة الإسلامية في البلاد انقسم بين أكثر من جناح، ولم يعد أمينها العام علي كرتي وزير الخارجية الأسبق بالقوة التي تجعله مسيطراً، حيث إن تفاعلات التنظيم الداخلية وتجلياته العسكرية جعلت الرجل مهدداً بالإزاحة من موقعه في أي وقت، وهي وضعية جعلته قابلاً لتحالفات على الأرض بين عناصر التنظيم وخلايا نائمة لـ”داعش” في السودان تم رصد وجودها على وقت حكم عمر البشير، بل ودينت في عدد من العمليات الإرهابية.
الجوار الأفريقي وجهة جديدة لنازحي السودان
بالتأكيد هذه الوضعية مقلقة لمصر، خصوصاً في وقت نعلم أن السودان كانت ملاذاً آمناً لـ”الإخوان المسلمين” في مصر على عهد البشير وبعده، ونعلم أيضاً أن خطوط تهريب البشر على الحدود المصرية – السودانية، خصوصاً من الجهة الشرقية، باتت مهددة بدخول عناصر متطرفة وإخوانية إلى مصر، حيث إن كلفة الفرد لا تزيد على ما يوازي 200 دولار للفرد بالجنيه السوداني في طريق وعر يبدأ من عطبرة السودانية إلى أسوان المصرية. وقد تكون هذه الأخطار هي ما تفسر تسريبات غير مؤكدة بانتشار كبير للقوات المسلحة المصرية على حدود مصر الجنوبية.
وربما تكون كل من إرتيريا وتشاد من الدول المرشحة للتأثر بشدة بما يجري في السودان، حيث تم اتهام قوات التحرير الإرتيرية أخيراً (فصائل المعارضة لأسياسي أفورقي) من جانب قبيلة الرشايدة بشرق السودان بالتحالف مع فصائل ميدانية مع الجبهة القومية الإسلامية في شرق السودان، وهو مما نفته جبهة التحرير الإرتيرية، ولكن هذا النفي لا ينفي إمكانية سعي “إخوان السودان” إلى التحالف مع أية فصائل في دول جيران السودان كما جرى في توقيت مبكر من حكمهم على عهد الترابي في تسعينيات القرن الماضي، خصوصاً في كل من إرتيريا وإثيوبيا، وهي التحالفات التي أنتجت عمليات إرهابية ضد السفارة الأميركية في دول شرق أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، وأسهمت في وضع السودان على لائحة الدول الراعية للإرهاب على مدى 27 عاماً.
الشاهد أن التفاعلات في شرق السودان أنتجت تحالفاً عسكرياً بين قبيلة الرشايدة وجناح عسكري يسمي “الأسود الحرة السودانية”.
انعكاسات المشهد السوداني على الجوار التشادي غالباً ما تكون في ضوء حقيقة متفق عليها هي أن اتساع الصراع السوداني من شأنه أن يشكل ارتدادات سياسية في تشاد، حيث يسهل اختراق الحدود المشتركة وزعزعة استقرارها في كل من السودان وتشاد، بل والتأثير في منطقة الساحل الأفريقي بأكملها، في ظل التاريخ والتراث المشترك والحدود المتشابكة بين كل من البلدين.
ملفات إقليمية معقدة
في هذا السياق يكون من الأهمية بمكان الإشارة أولاً إلى أن التفاعلات الثلاثية بين ليبيا وتشاد والسودان مؤسسة على أمرين: الأول توجهات نظام البشير الترابي الأيديولوجية في دعم تيار الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي في نهايات القرن الـ20، أما الثاني فهو فاعلية الأبعاد العرقية في تشكيل التحالفات بين السودان وتشاد.
في هذا السياق أسهمت محاولة اغتيال فاشلة للعقيد معمر القذافي من جانب معارضيه الإسلاميين الذين احتضنهم السودان على زمن الترابي، فأسفر ذلك عن دعم العقيد للمعارضة الدارفورية عبر تشاد، كما لعب العنصر العرقي دوراً في دعم تشاد لقبائل الزغاوة المشتركة بين السودان وتشاد، حيث تسبب دعم ديبي الأب للزغاوة عن دعم مقابل من جانب البشير للمعارضة التشادية إلى حد محاولة الأخيرة اقتحام العاصمة أنجامينا عام 2008.
تهديد نظام ديبي الأب من جانب السودان دفعه أولاً إلى عقد اتفاق سلام مع البشير عام 2010 ودفعه ثانياً لتغيير تحالفاته من الزغاوة نحو العرب، فصاهر أحد أعمدة جنجويد السودان، حيث تزوج من ابنة موسى هلال “أماني” عام 2021، وهو عم لمحمد حمدان دقلو قائد قوات “الدعم السريع” السودانية.
بعد اندلاع الصراع العسكري السوداني الراهن، وكذلك انهيار اتفاق الدوحة بين السلطة التشادية ومعارضيها منذ يونيو (حزيران) الماضي، فإن المجلس العسكري في أنجامينا، الذي يتضمن أحد أقرباء حميدتي (بشارة عيسى جاد الله)، يحاول الحفاظ على توازن وحياد واضح بين طرفي الصراع، ويدعو إلى الحوار والحث على الانخراط في محادثات بين الأطراف في أنجامينا التي أسهمت بدور فعال في مؤتمر دول جوار السودان الذي عقد بالقاهرة في يوليو (تموز) 2023.
وعلى رغم هذا الحياد التشادي في الصراع السوداني فإن حال السيولة السودانية سمحت بوجود فصائل معارضة تشادية حالياً في السودان، وهو ما يشكل تصاعداً للتهديدات المضادة لتشاد في وقت يتبلور فيه موقف الرئيس الحالي محمد إدريس ديبي ومجلسه العسكري على أن استيلاء قوة غير نظامية على السلطة السودانية، مثل “الدعم السريع” المنخرط في صفوفها أطياف من القبائل العربية وبعض المتمردين التشاديين السابقين، سيشكل تهديداً وجودياً للنخبة الحاكمة في تشاد، حيث سيتم تعزيز طموحات العرب، ولا سيما قبيلة الرزيقات التي ينتمي إليها حميدتي على حساب عشيرة الزغاوة، الذين يسيطرون على مقاليد السلطة منذ أكثر من 30 عاماً في تشاد.
وفي نطاق موازٍ فإن تشاد تعاني كالقاهرة تضخم أعداد اللاجئين السودانيين إليها، طبقاً لتصريحات وزير الدفاع التشادي داوود يايا إبراهيم، الذي قال إن بلاده تستضيف نحو مليون لاجئ سوداني منذ اندلاع الصراع الدافوري، محذراً من تدهور الوضع الأمني في منطقة الساحل ككل بما يسمح بتنامي ديناميات عمليات التهريب والاتجار بالبشر واتساع تجارة الأسلحة غير المشروعة بسبب إنشاء ممرات تهريب جديدة.
الإرادة الأقوى للحرب
علي الصعيد الإثيوبي فإن عدم السيطرة على الحدود الشرقية للسودان تجعل هناك إمكانية لفاعلية القوميات الإثيوبية المعارضة لأديس أبابا، خصوصاً في ضوء الوضع الراهن الذي تتزايد فيه الضغوط العسكرية على سلطة آبي أحمد رئيس الوزراء من جانب كل من قوميتي الأمهرة والأورومو، اللتين دخل ضدهما في صراع مفتوح بعد انتهاء حرب تيغراي.
وعلى رغم التداعيات السلبية في كافة الملفات الإقليمية على دول جوار السودان من حال الصراع داخله، فإن إمكانية حل هذا الصراع تبدو غير منظورة حالياً، نظراً إلى عاملين أحدهما إقليمي والثاني داخلي. فعلى المحور الأول تبدو الفواعل الإقليمية في كل من القاهرة والرياض والدوحة منخرطة في محاولة تطويق إمكانية تحول حرب غزة إلى حرب إقليمية. أما المحور الثاني فهو فاعلية الجبهة القومية الإسلامية على المستوى الميداني العسكري، إذ تقوم حاليا باستدعاء إيران إلى السودان لدعمها كما جرى في منتصف التسعينيات، وهو تطور يمكن أن يزيد من تعقيد التفاعلات الإقليمية وتشابك ملفي غزة والسودان بطبيعة وجود الطرف الإيراني كفاعل فيهما معاً، وهو ما يعني في المحصلة استمرار وجود إرادة وعوامل لاستمرار الحرب السودانية ورفض الانخراط الفعال مع الوساطات الإقليمية المستهدفة وقفاً لإطلاق النار، وهو ما ينعكس على مراوغات قائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان في الوصول إلى منصة التفاوض في ضوء ضغوط تنظيم الجبهة القومية الإسلامية، التي تملك أذرعاً في كل من الجيش ووزارة الخارجية السودانية.
هذه الوضعية تعطي زخماً للفريق السياسي السوداني المناهض لـ”الإخوان المسلمين” فبات بدوره منتجاً لخطاب استقطابي على الصعيد السياسي، حيث يظهر في بيانات جبهة “تقدم” التي تضم طيفاً من التحالفات المدنية السودانية رفض التعامل مع أي جناح من نظام البشير السابق مهما كانت درجات عدم انخراطه في عمليتي الإفساد السياسي أو التربح الاقتصادي، مما بات بدوره تحدياً أمام الوصول إلى منصة تفاوضية تسهم في وقف إطلاق النار وتوفير ممرات إنسانية للمدنيين في كافة أنحاء السودان، الذين يعيشون فقراً ويلوح لهم شبح المجاعة الشاملة.
(*) كاتبة وباحثة من مصر – عن (اندبندنت عربية)