حرب ابريل:
مضى أكثر من اثني عشر شهرا من اندلاع حرب الموت والتشرد والاغتصاب وفقدان الممتلكات وضياع الانسانية ولا زالت نيرانها مشتعلة، تزداد تمددا واشتعالا، ربما لا ينجو منها أحد ، فهي تحرق الوطن كل يوم وتقضي على آمال العودة إلى ما قبلها من حقبة كانت بائسة، لكنها ممكنة الاصلاح بلا سلاح وطائرات وقذائف مدافع، خلفت ولازالت تفعل، هذه الحرب اللئيمة، الكثير من التحديات على مستوى انسانيتنا حتى بتنا حديث العالم، الذي لم يشهد نزوحا ولجوءا لما يفوق الخمسة عشر مليونا من البشر طوال تاريخه الحديث، فضلا عن عشرات الآلالف من الموتى والمصابين واشد مضاضة من كل ذلك انكسار الإنسان السوداني وذهاب قيمته التي تجعل منه كائنا له وطن وتراب يحبه ويقدر على العيش فيه، وهو مشحون بكل الأزمات ومسيرة الفشل الطويل التي لازمت حلمه ببناء دولة التنوع ومجده الاستقرار والتطور، لينعم بالرفاه واستثمار موارده المتعددة في توفير أسباب الراحة ولخير البشرية.
انتجت هذه الحرب واقعا اجتماعيا وثقافيا جديدا وبسرعة شديدة وفي عام واحد فقط، استطاعت ان تفجر براكينا من التداعي المكبوت، بكل محمولات التاريخ وفشل النخب السياسية والثقافية والاكاديمية، منذ خروج المستعمر و ايلولة الشأن الوطني لبني الوطن وعدم قدرتهم على بناء أمة سودانية وفقط مشروع وطني سوداني مؤسس على ادارة التنوع العرقي،و الثقافي،و الاجتماعي والاقتصادي الحاد، الذين يتشكل منهم مجموع الشعب السوداني بلا روابط حقيقية وصلبة، تجعل هناك عُرى متينة لوحدة الشعور بالانتماء الوطني والمصير المشترك، فبتنا شعبا سودانيا يحمل ذات الجنسية ولكنه ينتمي الى فضاءات أخرى ، ليس من بينها، اننا نرى انفسنا جميعا سودانيين حتى ولو ادرنا خلافاتنا بالسلاح، نظل ننظر الى انفسنا كسودنيين نتقاتل بالسلاح، ومرد ذلك يعود الى سوء تربيتنا السياسية والثقافية والاجتماعية والوطنية وغياب الرؤية للبناء الوطني وعدم الاعتراف بالتنوع الذي هو أس تكويننا كشعب لهذا البلد. برز مع هذه الحرب، خطاب سياسي، ثقافي، اجتماعي وحربي عدائي و ازدرائي، مشحون برفض الآخر حتى ان تأثيره ، وصل إلى مرحلة القتل على أساس العرق واللون والشكل بين كل الأطراف المتقاتلة والاخفاء القسري والطرد من مكان الى مكان آخر، انه خطاب الكراهية الذي يمكن تعريفه مفاهيميا بانه، اي نوع من التواصل الشفهي او الكتابي او السلوكي، الذي يهاجم او يستخدم لغة ازدرائية او تمييزية بالاشارة إلى شخص او مجموعة على أساس الهوية ، وبعبارة أخرى على أساس الدين او الانتماء الاثني او الجنسية او العرق او اللون او الأصل او نوع الجنس او أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية. وهو خطاب دائما يستمد جذوره من مشاعر التعصب والكراهية التي يغذيها فى الوقت نفسه، ويمكن ان يؤدي الى الاذلال ويقود الى الانقسامات ، وهنا تكمن خطورة خطاب الكراهية لانه يمكن ان يصل الى مرحلة الدعوة وإلى العمل على سحق الآخر ورفض وجوده مطلقا، وهذا ما يحدث عندنا حاليا كواحد من تداعيات هذه الحرب اللعينة ، فخطاب الكراهية ظل موجودا فى مجتمعنا قبل هذه الحرب ويتجلى بكيفيات واوجه مختلفة، سواء أكان على المستوى النخبوي او وسط المتعلمين والمشتغلين بالقضايا العامة والمثقفين، او على المستوى الشعبي البسيط، بسبب تداعيات التاريخ وضعف ادراكنا للتنوع ورفض البعض للآخر ، نسبة للشعور بالافضلية العرقية و التفوق الثقافي المبني على الأساس العرقي او الديني ، الا انه وفي ظل حرب ابريل اللعينة هذه، طفت على سطح تداعيات الحرب اقوال وافعال وممارسات قائمة على خطاب كراهية مفرط، ومما يؤسف له ان ثلة من المتعلمين والمثقفين والاعلاميين والسياسيين ورجال الدولة وبعض قادة الحرب من الطرفين، اصبحوا يمارسون خطابا مشحونا بالكراهية على أساس العرق والجهة واللغة والثقافة والملامح والتاريخ، الشيء الذي أدى إلى حالة انقسام على هذه الأسس بين السودانيين، واسهم في تأجيج الصراع وصب مزيد من الزيت على نار الحرب المشتعلة، مما قد يؤدي إلى تحولها الى حرب أهلية واسعة النطاق وشديدة الفتك ترتكب فيها كل أنواع الجرائم أكثر مما يحدث الآن؛ و لربما تؤدي الى تقسيم الوطن بلا رجعة، هنالك قوى مجتمعية وثقافية وسياسية ودينية تتبنى هذا الخطاب شديد الخطورة، لأن الحرب أولها كلام وأخطر أنواع الكلام خطاب الكراهية، الذي امتلأت به وسائط الاعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي والخطابات العامة الموجهة للجمهور بغرض الاستقطاب او الرفض على أساس العرق والجهة، حتى بات بعض كبار القادة من طرفي الحرب يجردون بعضهم البعض من صفة المواطنة سواء بالكلام او الممارسة، كما ان طرفا الحرب باتا يستجيبان لدعاة خطاب الكراهية حتى بات واقع الحرب الآن ، ترتكب فيه المجازر والابادة العرقية في معظم الاقاليم التي تشتعل فيها الحرب، وبصورة أشد حدة في اقليم دارفور وولاية الجزيرة، وانتشار هذه الممارسات بمستويات مختلفة في كل السودان حاليا .
مسؤولية قادة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني وكيانات المثقفين والاعلام والقوى السياسية، باتت كبيرة ومطلوبة بصورة عاجلة للتصدي لخطاب الكراهية الحاد والمسيطر على فضاء الحرب الآن ، وذلك بمقابلته بخطاب مضاد مبني على أسس ان الحرب هي في اصلها سياسية وصراع مصالح بين قوتين مسلحتين معاديتين لحق الشعب السوداني في الاستقرار والديمقراطية والحكم المدني وسيادة حكم القانون ومحاربة الفساد، كما لابد من فضح الذين يتبنون خطاب الكراهية لتغذية الحرب ورفض الآخر والدعوة الى اجتثاثه على أساس انه آخر مختلف، لان هذا الخطاب يخرج الحرب من السياق الذي يمكن احتواؤه الى سياق آخر يقود الى الحرب الشاملة والفوضوية حتى ان طرفيها الحاليان لن يكونا موجودين حينها، لانهما سيذوبان في حرب الكراهية الشاملة وهي حرب الكل ضد الكل. هنالك ضرورة ملحة في ظل هذا الواقع المعقد لانتاج خطاب واسع موجه للشعب السوداني بعدم الانسياق وراء دعاة الكراهية بكل اوجهها وخطابها المشحون بروح تأجيج الحرب وتوسيع دائرتها على أسس عرقية وثقافية واستدعاءات تاريخية مضرة، على ان يتم تبني هذا الخطاب بواسطة حملة دولية واعلامية واسعة عبر مختلف المنصات بالتعاون بين منظمات المجتمع المدني الاقليمية والدولية والمحلية والفاعلين الاجتماعيين والمثقفين في قواعد المجتمع السوداني.
(*) كاتب وباحث