منذ حقبة الاستعمار، عرفت مدينة عطبرة بكونها المدينة ذات الوجهة والمزاج التقدمي، وهذا ما أورثها عداء حادا من قبل الحكومات الديكتاتورية التي حكمت السودان في حقب مختلفة من تاريخه، وكانت المدينة مستعدة إلى حد كبير لدفع ثمن مزاحها السياسي.
ربما فترت المدينة الواقعة على ملتقى نهري النيل وعطبرة بولاية نهر النيل، للحظات خلال تاريخها الطويل من الصراع، لكنها عادت في السنوات الأخيرة جدا بوجه ثوري مشهود، عبّرت عنه بحريق أهلها الساخطين على نظام عمر البشير، لدار (المؤتمر الوطني- الحزب الحاكم وقتها) واشعلت بذلك شرارة قوية من شرارات ثورة ديسمبر 2018.
وأردفت ذلك الحريق لدار الحزب الحاكم بأرسالها لقطار محتشد بالثوار، وصل إلى ساحة الاعتصام بالخرطوم في أبريل 2019، وهو القطار الذي وضع حدا لغرور ومماطلة المجلس العسكري الذي استلم السلطة من عمر البشير، وكان المجلس في بادئ الأمر يرفض القبول بالتفاوض مع (قوى الحرية والتغيير) الممثلة للثورة وقتها.
يقول عبد الخالق محجوب السر، وهو أحد مواليد المدينة وسكانها، إن عطبرة ظلت لأزمان طويلة “تواجه هجمة شرسة من قبل الأنظمة السياسية التي رغبت في تدجينها، ويكمن السبب في القدرة التنظيمية العالية للمدينة ومقاومتها للدكتاتوريات”، ويضيف: “اكتسبت المدينة صرامتها من التنظيم النقابي لعمال وموظفي سكك حديد السودان، منذ بواكير الاستعمار.. هذا الإرث التليد صار سمة وملمحا للمدينة، وأكسب إنسانها وعيا سياسيا عاليا بفضل التأثير الايديولوجي للحزب الشيوعي السوداني، كما هو معروف في التاريخ الحديث”.
في الأيام القليلة الماضية عادت مرة أخرى ذكرى مدينة عطبرة، لكن بغير الوجه الذي عرفت به، عادت مع حادثة المسيرة القتالية التي هاجمت إفطارا رمضانيا جماعيا يخص (كتيبة البراء بن مالك) المقاتلة التي ترتبط بجماعة الإخوان المسلمين التي فقدت الحكم بسبب ثورة ديسمبر، وأسفر عن مقتل أكثر من عشرة أشخاص وجرح عشرات آخرين.
هذا الحادث الذي أعاد سيرة المدينة إلى الواجهة نقل حرب أبريل بين الجيش ومليشيا الدعم السريع إلى جغرافيا نوعية كانت خارج حسابات المحللين السياسيين، لكن مع ذلك لم تعلق عليه حكومة الأمر الواقع بقيادة عبد الفتاح البرهان، ومر كما لو أنه حادث سير طفيف وقع في الطريق العام.
وفي كل الأحوال، سجل منفذ الهجوم انتصارا سياسيا على جماعة الإخوان المسلمين وأثبت أنها في المتناول مهما بعدت، وغير قادرة على حماية نخبة عناصرها المقاتلين. لكن، مع ذلك قالت الجكومة المحلية في ولاية نهر النيل “إن الهجوم وقع على مصلين”، دون أن تشير إلى كتيبة البراء بالاسم، وأعلنت جظرا متشددا على التجوال في مدن الولاية.
ويتخوف المراقبون من أن تجد الحكومة المحلية في نهر التيل فرصتها لإفشاء حالة من المكارثية والتضييق على القوى السياسية، خصوصا القوى المنادية بوقف الحرب، وهي قوى كبيرة ومعتبرة من سكان المدينة الفخورة بأنها مفجرة ثورة ديسمبر.
هذا الصمت من قبل حكومة الأمر الواقع يفتح تأويل الحادث على احتمالات متعددة، من بينها أن الحادث يتطابق مع رغبة بعض ضباط الجيش في وأد هذه القوى المسلحة غير النظامية حتى لا تتكرر فكرة قيام “مليشيا الدعم السريع” التي أدخلت البلاد في مأزق مدمر.
كانت كتيبة البراء قد أعلنت منذ بدء الحرب في 15 أبريل الماضي أنها تقاتل إلى جانب الجيش في حربه ضد مليشيا الدعم السريع. ويتكون قوامها من أعضاء تابعين لجماعة الإخوان المسلمين، كما أظهرت ذلك الفيديوهات التي أنتجتها ووزعتها على وسائل التولصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت.
وأظهر فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، عناصر من الكتبة يرفعون الأسلحة والتكبير استعدادا للإنخراط في مواجهة قوات الدعم السريع.
منذ بدء الحرب، أصبحت يتم النظر إلى مدينة عطبرة بوصفها “قلعة نائية وبعيدة عن نطاق الحرب، وتسطير عليها جماعة الإخوان المسلمين التي خسرت الحكم، وبذا كانت بالنسبة لهم بمثابة “نقطة التركيز الأمني والعسكري والسياسي لإدارة الصراع مع مليشيا الدعم السريع وعودة الجماعة إلى السلطة”.
ربما رغبت الجماعة في مواصلة تغيير ولاء المدينة لصالحها، وبالتالي مسح الصورة الانطباع الثوري الذي ظهرت به مؤخرا. وقد تكون هذه الحادثة المكلفة “هي آخر اختبار لمغامراتهم في مدينة لم يحسنوا معرفتها جيدا” كما يقول السر.
وجدت جماعة الإخوان المسلمين في الحرب ما يخدم تطلعاتها في تمتين وتعزيز موقعها في عطبرة، وذلك بحشد كل قواعدها في المدينة ودفع أهلها لتبني دعم الحرب و(كتائب المستنفرين).
وفي الواقع، كانت المسيرة تستهدف نخبة من جماعة الإخوان المسلمين التي بادرت بالدعوة للإفطار الرمضاني في صالة عامة يحضره نخبة من قادة الكتيبة “احتفاء بمرور سنة على الحرب.
وفي الواقع، ومع مجئ نظام الإخوان المسلمين إلى الحكم، وصلت الاستعانة بالمليشيات غير النظامية إلى مداها الفائق في البشاعة، وكانت كلفة هذه الاستعانة أكثر ثقلا، وأصبحت، بنهاية المطاف، تهدد وحدة السودان كدولة، وكذلك، استقرار الإقليم بأكمله.
وعلى مر السنين، كانت لاستراتيجة الاستعانة بالمليشيا مزاياها الرخيصة للأنظمة في الخرطوم؛ حيث تبنى نظام عمر البشير مُعتقدا جازما بأن المليشيات أكثر كفاءة وأقل كلفة، سياسيا وماليا، مقارنة بالجيش الرسمي، لكن الواقع أثبت العكس تماما.
وجريا وراء هذه الاستراتيجية، تم تشكيل قوات “الدفاع الشعبي”، على سبيل المثال، منذ العام 1989، باعتبارها كيانا يساند الجيش الرسمي. وضمت في صفوفها عددا من المجموعات الإسلامية المسلحة، بلغ عددها، في بعض التقديرات، نحو (100) ألف مقاتل، قبل أن تحل من قبل وزارة الدفاع بعد النجاح الأولي لثورة ديسمبر.
ومع مرور الوقت، أصبحت المليشيات غير النظامية المعدة محليا أكثر وضوحا في نظر عمر البشير من القوات النظامية المحتكرة للسلاح في الدولة، وأخذ يعول عليها في حمايته وإبقائه في السلطة.
وفي الواقع، بدأت المواجهة بين مدينة عطبرة والحكومات الديكتاتروية عندما أمر الجنرال جعفر نميري (انقلب على الحكومة في 1969) بتسريح العمال وخفض التمويل عن السكك الحديدية بعد أن فشل في كسر نفوذ الحزب الشيوعي هناك ومقاومة اتحادات العمال التي نظمت العديد من الاضرابات في السكك الحديدية.
وتنفيذا لأمر الجنلاال نميري تم تسريح أكثر من (20) ألف عامل على مدى عشر سنوات من سنوات حكومة الستة عشر.
أما بالنسبة لعبد الخالق فإن أكثر المحاولات شراسة للانتقام من عطبرة وإضعاف صمود أهلها تم على جماعة الإخوان المسملين وانقلاب الإنقاذ، وذلك بتفكيك السكة الحديد وإحالة معظم عامليها إلى الصالح العام، واستبدال نشاطها الاقتصادي بالقطاع الخاص لصالح شركات ذات صلة بالجماعة الإسلامية التي ما زالت تصارع للاستحواذ على صورة المدينة.