قضايا

نوافذ الفنون؛ ملاحظات عامة حول كتابات الامام الصادق المهدى فى الفنون

السرالسيد (*)

مقدمة:

شكل الفن ولا يزال حضورا جذريا فى حياة الانسان حيث مثل له احتياجا وجدانيا وعقليا بل واداة فى التعامل مع العالم من اجل تملكه،لذلك لم تخل اى مرحلة من مراحل الحياة الانسانية من حضور للفن باشكاله المتعددة من رسم وغناء وموسيقى ورقص وعمارة ونحت وتمثيل،الخ..بالطبع هناك اختلاف بين مرحلة ومرحلة من حيث سيادة نمط فنى معين وقد يعود السبب هنا الى طبيعة المرحلة من حيث رؤيتها الفكرية للعالم وللانسان وللطبيعة والتاريخ ومن حيث نمط حياتها على مستويات الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة..ما لا يجب غض الطرف عنه عند النظر للفنون فى علاقتها بالانسان وحياته هو تلك العلاقة بين الفن والدين فقد خرج الفن من رحم الدين كما اكدت معظم الدراسات المعتبرة حول نشأة الفن وماهيته وحتى بعد ان استقل الفن عن الدين وصنع مساره الخاص ظلت تلك العلاقة قائمة حتى فى عصرنا الحاضر ولعل السبب يكمن هنا اولا فى العامل “الجينى” الذى اشرت له انفا ويكمن ثانيا فى محاولة الفن الدؤوبة خاصة فى الفترات التى احتدم فيها الصراع بين العلم والدين من جهة وبين الفلسفة والدين من جهة اخرى كما فى التجربة “الغربية”،ان يشغل – اى الفن – الفراع الذى تركه الدين، بعد انسحابه او سحبه من المجال العام..هذه المنافسة والتى تصل الى حد المنازعة بين الفن والدين وان كانت تنتمى بشكل اكبر للتاريخ الاوربى الا انه وبحكم هيمنة وسيادة الحضارة الغربية سادت هذه الحالة واصبحت هى التى تحكم علاقة الفن والدين خاصة فى عصرنا الذى نعيش،وهو ما جعل سؤال مشروعية الفن او عدم مشروعيته فى بعض انواعه او بعض تجلياته فى انواعه المختلفة سؤالا ملحا عند جمهرة اصحاب الديانات ومنهم المسلمين بالضرورة.

الامام الصادق وسؤال الفنون:

1.

عن الامام الصادق:

نشير بداية الى ان اى حديث عن الامام وصلته بأى ظاهرة اجتماعية او سياسية او ثقافية بالضرورة ستتبدى فيه رؤى ومواقف المثقف والمفكر والعالم والسياسى فقد اكدت الوقائع ان الامام فى فكره وعمله انما ينطلق من كل هذه الصفات بما تحمله كل صفة من تعريف ومهام،فالامام وبدون ادنى ريب يعد واحدا من الاسماء المؤثرة فكريا وثقافيا فى عالمنا المعاصر وكيف لا واسمه يرتبط دما وتنظيرا وممارسة بواحدة من اقوى حركات التحرر فى القرن التاسع عشر هى حركة محمداحمد المهدى السودانى واسمه يرتبط بواحد من اكبر الكيانات الدينية والسياسية فى السودان هو كيان الانصار واسمه يرتبط بواحد من اقوى اديان العالم الان بل يكاد الدين الذى يلون سماء العالم اليوم ويشكل السؤال القلق لانسان اليوم فى كل العالم واعنى هنا الاسلام..يرتبط اسمه بالاسلام لما يتمتع به من موقع فكرى استثنائى فى دراسات الاسلام اذ هو من اقوى المنافحين عن الاسلام بتبيان تعاليميه التى تقوم على تحرير الانسان والزود عن كرامته وحماية حياته من كل ما يهددها،فقد كتب الامام فى كل هذه المجالات، ومن منطلق انها تشكل اسئلة لعالم اليوم وفى نفس الوقت تشكل تحديا امام الاسلام والذى وفى مواطن كثيرة تبدى كما صوره بعض منسوبيه من دعاة ومفكرين وحركات وبعض اعدائه ايضا وكأنه دين يدعو لقتل المختلفين معه ويدعو لقهر النساء ويعادى الحريات العامة والخاصة ويكرس لانظمة القهر والاستبداد ويحرم الابداع والفنون،باختصار يحرم كل ما يمكن ان يجعل الانسان حرا ومنفتحا ومبدعا..تصدى الامام لكل هذه الشبهات والاشكالات والمعيقات عبر مواقفه وعبر احاديثه وعبر عشرات الكتب التى غطت كل هذه المجالات وغيرها عبر رؤية تنم عن ذهن نقدى يجمع بين “تعددية المصادر وتنوعها” و “الحيوية” و”الاصالة” و”المعاصرة”،ويرى العالم بتنوعه واختلافه،ناقدا ومتجاوزا لتك الرؤى الاحادية التى هيمنت على عصرنا ولا تزال.

2.

عن سؤال الفنون:

تكلم الامام الصادق عن الفنون والجمال فى احاديثه وكتبه من خلال عشرة حاجات للانسان يرى ان حياته لا تستقيم بدون اشباعها وبتوازان،حددها كما اشارت الاستاذة رباح الصادق فى كتاب (التشكيل:فى رحاب الامام الصادق المهدى)1 ،الذى جمعته وقدمت له..حددها بالحاجات الروحية،المادية،

المعرفية،الاخلاقية،

الاجتماعية،

العاطفية،الجمالية او الفنية،البدنية،البيئية والترفيهية.سنلاحظ ان الامام وهو يكتب عن الفنون ينطلق من رؤية الاسلام الكلية للانسان وللمجتمع وللطبيعة والتاريخ بحسبانه دينا عالميا وبحسبانه شرائعا وشعائرا وثقافة وحضارة وتقاليد فالامام ووفقا لرؤيته هذه ينظر للفن (كحقيقة مغروسة فى الفطرة الانسانية)2 وينظر (للجمال كتعين من مقاصد الكون لانه موجود بكثرة بحيث لا تفسره الصدفة ومتحرر من الوظيفة بحيث لا تفسره الضرورة..انه مقصود لذاته)3 وايضا ينظر للفن كشكل من اشكال الوعى الاجتماعى يؤثر ويتأثر بالبنى الفكرية و الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى يتخلق داخلها ويساهم من موقعه فى تخلقها هى، فالفنون عند الامام كما جاء فى احاديثه واوراقه وكتبه التى نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر كتاب “رؤى فى العروبة والديمقراطية والاسلام” وكتاب “ايها الجيل” وكتاب “نحو ثورة ثقافية” وكتاب الدين والفن” متصلة بالجمال وحاملة للعديد من الرسائل التى تنفع الناس والتى لا تنفع الناس لذلك لم يكن غريبا ان نجد الامام وهو يقارب ماهية الفن وادواره ان يستعرض اراء بعض الفلاسفة الغربيين والفلاسفة العرب والمتمثلة فى ان (الفن نشاط مرتبط باللذة الحسية وبالشهوة مثله مثل السلطة والمال والجنس..وفقا لهاتين الفكرتين فقد تم التعامل مع الجمال والفن باعتبارهما مؤديان للغواية والانصراف عن الله)4 وان نجده كذلك يقف على ما اسماه بالخطاب الايديولوجى والذى عنى به الخطاب الماركسى فى المرحلة الاولى للنظام المايوى والخطاب الاسلامى الذى اسس له وتبناه نظام الانقاذ مبينا وبتركيز اكبر على تجربة الانقاذ الاثر السالب لهذين الخطابين على الحياة السودانية عامة وعلى الحياة الفنية بشكل اخص..تضعنا هذه المقاربة امام ما يمكن اعتباره ميزة او قيمة مضافة للامام فى نظرته للفنون واعنى هنا تلك النظرة المتكاملة فبقدر ما ينظر الامام للفنون فى مستوياتها الفلسفية والجمالية والكونية نجده ينظر لها فى سيرورتها فى الواقع المعيش فقد وقفنا على اشارات له هنا وهناك لمفهومين فلسفيين على صلة بالفن هما مفهومى “الحرية والالتزام” وما يتصل بهما من مقولات كمقولتى “الفن للفن” و”الفن للمجتمع” اما كيف حاز الامام على هذه الميزة والقيمة المضافة فاضافة الى تكوينه الفكرى وثراء مصادره ومعارفه وعالميته ومواقفه المنحازة دوما للعدالة والحرية والكرامة،سنقف على علاقته المباشرة مع الكثيرين مع المبدعين فى ضروب الابداع المختلفة فكثيرا ما التقيناه وهو الزعيم الكبير فى العروض المسرحية والموسيقية والتشكيلية وكثيرا ما التقى المبدعين فى بيته ناقدا ومحاورا ومستشيرا وراعيا،اما هبته العظيمة للابداع والمبدعين وللفكر والمفكرين وللسياسة والسياسيين والتى لن تنسى فهى اولا محاضرته (نحو مشروع قومى للفن التشكيلى فى السودان) التى قدمها فى المجلس القومى للثقافة والفنون فى العام 2003 تحت مظلة الجمعية والاتحاد ومؤسسة اروقة للثقافة والعلوم والتى تناول فيها قضايا التشكيل فى السودان ومشاكل الحركة التشكيلية فى السودان والمدارس التشكيلية السودانية وتغول الايدولوجيا على التشكيل فى السودان وغير ذلك من الموضوعات وثانيا ما اطلق عليه هو (الاستراتيجية الثقافية والميثاق الثقافى) والتى اشار فيها الى ان تاريخ السودان الحديث عرف اطروحتين فى التعامل مع ما اسماه “بالملف الثقافى” هما اطروحة الاصولية العلمانية واطروحة الاصولية الدينية او القومية)5 وهنا الامام يقصد تحديداما تركتاه هاتين الاطروحتين من اثر غير حميد على الثقافة والفنون.

الفن والدين:

اشرنا فى ثنايا هذه المقالة الى ان الامام ينطلق من رؤية متكاملة للاسلام لذلك عند مقاربته لعلاقة الدين بالفن قارب هذه العلاقة عبر مستويين، الاول هو ما يمكن ان نسميه بالعقدى والذى يعنى ببناء التصورات حول ماهية الحياة وما هية الموت واسئلة المصير وماهية التاريخ وغير ذلك من الاسئلة ذات الطابع الفلسفى والعرفانى،والثانى هو ما يكمن ان نسميه بالفقهى والذى يعنى بالواقع المعيش كأسئلة المسموح والممنوع والحلال والحرام او بكل ما يدخل فى العمل الصالح وكل ما لا يدخل فى العمل الصالح وفق تعاليم الاسلام وهنا نجد ان الامام فى المستوى الاول ابان وبوضوح شديد خاصة فى كتاب الدين والفن من ان الفن والجمال موجودان فى نسيج الفطرة الانسانية وفى نسيج الكون اضافة الى انهما يشكلان احتياجا انسانيا ظل حاضرا طيلة مسيرة الانسان والى الان وفى المستوى الثانى نجده قدم مراجعة دقيقة وعميقة لما جاء فى المدونة الفقهية والحديثية القديمة لكل ما يتعلق بتحريم الفنون او اباحتها خاصة الموسيقى والغناء والنحت والتصوير بحسبانها الفنون الاكثر رواجا فى عصر نشوء تلك المدونتين وبحسبان ان هاتين المدونتين لا زالتا تتحكمان فى واقعنا الان،هذه المراجعة الدقيقة والعميقة اتكأ فيها الامام على اسماء كبيرة فى مسيرة الفقه والحديث والتصوف قديما وحديثا مثل ابن تيمية والغزالى وابن حزم والامام المهدى والامام عبد الرحمن المهدى والقرضاوى ومحمد عمارة وغيرهم، ليصل فى الاخير ليس الى اباحة الفنون فقط وانما الى ضرورة ادماجها فى استراتيجيات التنمية والتعليم والتخطيط الثقافي.

قريبا من الخاتمة:

استطيع ان اقول وبلا تردد ان الامام الصادق المهدى والذى هو مفرد بصيغة الجمع فهو المفكر والفقيه والمفسر والمثقف والسياسى قد توفر على قدر كبير من الرحمة والرفق تجليا فى كل ما يقول ويفعل ويكتب ولعل هذا ما لمسته وانا امشى معه وهو يفتح نوافذ الفنون.

رحم الله الامام وافاض عليه رضوانه وبركاته.

(+) المراجع:

1.رباح الصادق..التشكيل:فى رحاب الصادق المهدى..مطبوعات اللجنة القومية لتخليد ذكرى الامام الصادق المهدى-بدون تاريخ.

2.الامام الصادق المهدى..الدين والفن..الناشر غير مذكور-2005

3.التشكيل:فى رحاب الامام الصادق المهدى..سبق ذكره.

4.المرجع السابق نفسه. 5.المرجع السابق نفسه

 

(*) كاتب وناقد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى