أخبار

ارتريا والهدم الممنهج – فتحي عثمان

في عام 2018 وبدعوة كريمة من العم السفير علي محمد صالح والصحفي الراحل برهاني ولد قبرئيل الشهير ب “برهاني سوداناو” قدمت في لندن ندوة واخترت لها حينها موضوعا أو سؤالا مفاده: “لماذا تكبح السلطة في ارتريا النمو الطبيعي للمجتمع؟”
وبهذا كنت-ولا أزال- أقصد لماذا تمنع السلطة الحاكمة ظهور طبقة وسطي عبر خنق المبادرة الاقتصادية- بالتحديد بمنع ظهور ونمو القطاع الخاص. سنترك الإجابة على السؤال حتى نهاية المقال، محاولين أولا الإجابة على سؤالين يفتحان الباب للإجابة على السؤال الأول وهما: كيف تدمر السلطة في ارتريا كل من الفلاحين والتجار بشكل ممنهج ولماذا؟
المثال الذي قدمته في الندوة كان من صميم الواقع. فالدولة دخلت كمنافس ولاعب يتمتع بكل الامتيازات أمام خصم مغلوب على أمره في مباراة غير متكافئة ولعب غير نظيف. فالفلاح المنتج للخضر والفواكه على ضفاف نهر بركة عندما يزرع الطماطم فإنه يشتري مدخلات الإنتاج كلها من بذور ووقود ويدفع تكاليف العمال والترحيل حتى يوصل انتاجه إلى السوق؛ فإذا افترضنا أنه كان ينوي بيع كيلو الطماطم بسعر 10 نقفات، مثلا، واضعا في الاعتبار تكاليف الإنتاج وأرباحه الصافية، فماذا يجد عندما يصل إلى السوق؟ يجد بائع يبيع الكيلو بسعر 5 نقفات. فمن هو هذا البائع المنافس؟ في الغالب هو ضابط من قوات الدفاع الارترية يمتلك مزرعة ويشغل فيها مجندي الخدمة القسرية دون دفع فلس أحمر، ويمده الجيش بالوقود اللازم والشاحنات العسكرية لتوصيل انتاجه إلى السوق بتكلفة انتاج صفرية. وليس الضباط وحدهم هم المنافسين الوحيدين؛ بل هناك مستثمرين يعملون برأسمال مدفوع من الدولة والغرض هو إخراج الفلاح من دائرة الإنتاج.
إما التجار، وعلى سبيل المثال هنا، تجار مواد البناء في العاصمة والمدن الأخرى، فهؤلاء في صراع مع اخطبوط محكم القبضات يسمي “شركات البحر الأحمر متعددة الأغراض”. وبتنسيق بين هذه الشركة والمصارف لا يسمح لتجار مواد البناء والسلع الغذائية وقطع غيار السيارات بسحب عملة صعبة لشراء ما يحتاجونه من الأسواق الخارجية. وتم منع المقاولين من العمل ووقفهم بقرار حكومي. بالمقابل يسمح لشركات البحر الأحمر باستيراد مواد البناء والسلع الأخرى من الصين والامارات ودول أخرى بدون أي قيود على العملة الصعبة وتحويلاتها، وتمر كل السلع عبر الموانئ دون أن يدفع عليها جمارك أو ضرائب أو حتى رسوم. بعد ذلك تقوم شاحنات شركة “ترانسهورن” المملوكة لنفس الشركة بنقل المواد إلى المدن المختلفة. وبذلك يتم استبعاد التجار عن المنافسة ويتم احتكار السوق المحلي بالكامل: فهل القصد من ذلك هو الإثراء فقط؟
الإجابة هي أن السلطة تقوم ووفقا لمخطط مدروس ومحسوب بكبح النمو الاجتماعي ومنع ظهور طبقة وسطي ذات قدرات اقتصادية وطموح سياسي. النمو الاقتصادي الذي تكبحه السلطة في اسمرا منذ ثلاثة عقود كان يمكن أن يؤدي إلى ازدهار تجاري وصناعي وخدمي، ويؤدي بدوره إلى تراكم رأس المال الذي يمكن أن يدفع عجلة التنمية، ويؤدي فوق ذلك كله إلى توسعة مواعين المؤسسات المالية وتغيير القوانين الخاصة بالاستثمار والتبادل وشروطه والعلاقات مع الخارج، مما يعني- وهذا ما تخافه السلطة الحاكمة- استحداث قوانين وتشريعات تحمي الأموال والأنشطة الاقتصادية ولا يتم ذلك دون إحداث تغييرات جوهرية في طبيعة السلطة السياسية وأساليب عملها والقائمين عليها، وهذا بالضبط ما لا تريده هذه السلطة وتعمل على إعاقته بل الوسائل الممكنة.
وتتساير مع عملية الهدم الممنهج هذه، سياسات العسكرة والتجنيد القسري، وحرمان الأسواق من الأيدي العاملة الماهرة وغيرها، وسياسات التهجير وبذلك تكتمل دائرة التخريب، وذلك كله ليكون الحاكم الأوحد كبومة تنعق على أنقاض وطن يسكنه الخراب.

كاتب وصحافي ارتري مقيم في باريس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى