استرداد ود مدني وفن تحويل الانتصار إلى هزيمة

د. أحمد عثمان عمر (*)

(١) 

لا احد سوى عميان البصر والبصيرة، لم يفرح بهروب المليشيا الارهابية من مدينة ود مدني وانكسارها، كما انكسرت قبلا في سنجة وجبل موية وبعض المناطق في العاصمة المثلثة. فالاسوياء من البشر، يفرحون بهزيمة الارهاب واللصوصية ، وانحسار مد القتلة النهابين ملوك التوحش ومنعدمي الإنسانية. فتبادل الأدوار في الانسحاب من المناطق والهروب بين المليشيا الارهابية والجيش المختطف، يبعث آمال الكثيرين في حدوث تحول ينهي الحرب ويمكن النازحين والمشردين بفعل المليشيا الارهابية المجرمة من العودة إلى ديارهم ومناطقهم التي أصبحت خراباً. فالجيش المختطف والمليشيات المجرمة التابعة له الذين هربوا من ود مدني وسلموها للمليشيا الارهابية تسليم مفتاح دون قتال قبل أكثر من عام، يغذيان وهم عودة الدولة عند استلامهما أي منطقة عبر خطابهما الكاذب والمضلل، ليكتشف المواطن بأنه قد تخلص من مليشيا ارهابية، ليقع في يد مليشيات مجرمة بديلة لا تقل ارهابا وعنفا ووحشية عن مليشيا الجنجويد الارهابية بل تتفوق عليها بالذبح الداعشي العلني.

(٢) 

فمن تأملوا في ان استعادة الجيش المختطف من قبل الحركة الإسلامية المجرمة الذي يحاول مع مليشياتها استعادة سلطتها كاملة بالعنف غير المسبوق، ستعيد دولة سيادة حكم القانون أو على الأقل دولة الانقلاب التي اكتفت بقتل المتظاهرين السلميين فقط رميا بالرصاص في الشارع العام، روعوا بمشاهد الذبح لمواطنين (كرامة لود مدني)، وبإلقاء آخرين احياءً في النيل ، والإعدام رميا بالرصاص للبعض أمام رؤوس الأشهاد، واستباحة كمبو طيبة وحرق الأطفال وقتل مواطنين على أساس اثني وعرقي في جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية ، وبمشاهدة سلوك وحشي لا يشبه البشر ولا يمكن مشاهدته حتى في أفلام الرعب ذات الخيال الجامح. وهذا السلوك الذي تسأل عنه قيادة الجيش المختطف غير الشرعية، بوصفها القيادة التي تتبع لها هذه القوات المنفلتة المجردة من الإنسانية ، ولن يعفيها من المسئولية إصدار بيان يدين هذه الأفعال بإجمال تمويهي، بل يجب عليها القبض على مرتكبي هذه الأفعال – وهم معروفون بعد ان صوروا جرائمهم ونشروها تباهيا في وسائط التواصل الاجتماعي- إلى محاكمات عادلة لا تعفيها من المسئولية عن تجييشهم و “فك اللجام” لهم . فالواضح هو أن هزيمة مليشيا الجنجويد الارهابية بهروبها من ود مدني، لم يقد إلى عودة الدولة كما يتوهم الكثيرون ، بل كرس عودة ارهاب دولة التمكين وسعيها لتصفية الحسابات مع خصومها السياسيين بعنف ووحشية تحت دعاوى التمكين. فعودة الدولة المختطفة لا تتم إلا بسيادة حكم القانون ومساواة الناس أمامه، وعدم أخذ القانون باليد وممارسة القتل خارج نطاق القانون. فالمتعاونون مع المليشيا الارهابية يجب تقديمهم لمحاكمات عادلة أمام قضاتهم الطبيعيين، لا ذبحهم داعشيا كالشياه وإلقائهم في النيل، في سلوك حَوّل انتصار الجيش المختطف ومليشياته المجرمة دون إطلاق طلقة واحدة إلى هزيمة كاملة الدسم، فضحت طبيعة اللا دولة التي تسعى اليها الحركة الإسلامية المجرمة. 

(٣) 

إذ لا شك في أن هذه الحركة المجرمة تحرز تقدما ميدانيا مؤخراً ، غذى الوهم لديها بإمكانية تحقيق نصر حاسم ونهائي على مليشيا الجنجويد الارهابية، واستعادة حكمها لكامل البلاد، وعممت هذا الوهم بخطاب سياسي مضلل ، يستقطب كارهي المليشيا المجرمة وهم غالبية أبناء شعبنا الذين ذاقوا الويلات من سلوكها المريض اللا إنساني. ولكن هذا الوهم سيتضح قريبا انه مجرد حلم مريض لا يمكن تحقيقه. فالتقدم ميدانيا امر ممكن، تدعمه التحولات في مواقف بعض الدول في المجتمع الدولي، ويكرسه ما رشح من ان هنالك تحالفاً إقليمياً ودولياً سيسمح بتدريب قوات الجيش المختطف “ومليشياته الجديدة طبعاً ” في الصومال بدعم عدة دول تدعمه تسليحيا ولوجستيا ، حتى يتمكن من هزيمة المليشيا الأرهابية التي كونتها قيادة الحركة الإسلامية لدعمه سابقا وخرجت عن سيطرته وهزمته شر هزيمة. ولكن هذا الدعم يأتي في إطار الحفاظ على توازن الضعف، برفع القوة التفاوضية للجيش المختطف، للسماح له بالتفاوض على تسوية من مواقع أفضل نسبياً ، بدلا من إعطاء المليشيا الارهابية اليد العليا في طاولة مفاوضات التسوية. والدلالات على ذلك كثيرة، منها فرض العقوبات الأمريكية على قائد المليشيا الارهابية قبل مدة قصيرة، وفرض عقوبات على قائد الجيش المختطف غير الشرعي بالمثل بالمواكبة مع استرداد ود مدني ، ومنها ايضاً ان ما رشح من الدعم والتدريب للجيش المختطف سيتم في قاعدة لدولة الوساطة بين سلطة الأمر الواقع التابعة له ودولة الإمارات في دلالة واضحة لطبيعة هذا الدور، وكذلك منها خطاب قائد المليشيا الأرهابية الذي اقر فيه بالهزيمة في ود مدني وتوعد بالقتال لواحد وعشرين عاما واعقب ذلك بقصف مدن في الشمالية بالمسيرات وقطع الكهرباء والماء من مناطق كثيرة، وايضاً منها خطاب قائد الجيش المختطف غير الشرعي الذي يتضمن في ثناياه القبول بالتفاوض رغم رفع السقوف اعمالاً للموافقة على الوساطة التركية، ومنه ايضاً رغبة المجتمع الدولي في فرض تسويته التي لن تسمح لأي من الطرفين بتحقيق انتصار ساحق ، وتترك لهما مساحة المناورة في إطار توازن الضعف فقط لا غير. 

(٤) 

وخلاصة الأمر هي ان احداث ود مدني التي تمت بعد هروب المليشيا الارهابية ودخول الجيش المختطف ومليشياته إلى المدينة، لم تشكل انتصاراً لشعب السودان في حرب كرامة، بل انتصاراً للحركة الإسلامية المجرمة ، سمح لها بتصفية حساباتها السياسية مع خصومها بوحشية غير مسبوقة، وعزز محاولتها لتحويل الحرب إلى حرب اثنية بمهاجمة مكونات عرقية محددة في الكمبو وذبح المواطنين على الهوية. كذلك أوضح بشكل جلي ان الحرب الماثلة ليست وسيلة لاستعادة دولة القانون، بل وسيلة لاستعادة دولة التمكين في تحرك صاعد من دولة الانقلاب إلى شبه الدولة المفروضة بقوة الحرب وقعقعة السلاح، وان هذه الحرب ضد المدنيين من قبل طرفيها ، وأن الفرق بين المليشيا الأرهابية والجيش المختطف ومليشياته فرق مقدار ، وأن حرب كل منهما موجهة إلى قسم معين من المواطنين المصنفين لديه كأعداء لا إلى الطرف الآخر من الحرب، الذي يسعى إلى تسوية من مواقع القوة لاقتسام السلطة أو ربما البلاد معه ان نجح مخطط التقسيم الذي تسعى اليه الحركة الإسلامية المجرمة كخيار أخير، وفقا لما عرف بمثلث حمدي الذي طورته اخيرا إلى دولة البحر والنهر. وهذا يؤكد ما ظللنا نردده منذ اندلاع الحرب ، من ان هذه الحرب هي حرب فئات الرأسمالية الطفيلية المعادية لشعبنا في صراعها على السلطة، وهي ضد المواطن المغلوب على امره، وأن طرفيها أعداء للشعب السوداني ، الذي يجب إلا ينخرط في هذه الحرب بدعم أي من طرفيها الواجب نزع الشرعية منهما معا باعتبارهما مجرد انقسام للجنة الأمنية للإنقاذ ، التي نفذت انقلاب القصر وانقلاب اكتوبر 2021م لقطع الطريق أمام ثورة ديسمبر المجيدة بهدف تصفيتها. والمطلوب هو الفرح لهزيمة المليشيا المجرمة، مع وعي كامل بأن الانتصار ليس انتصاراً للشعب ، بل للقسم الآخر من اعدائه الذين ابدوا وحشية غير مسبوقة حولت نصرهم إلى هزيمة بمعايير دولة سيادة حكم القانون وحقوق المواطن، وتصميم على عدم إعطاء الجيش المختطف ومليشياته شرعية الحكم باسم الانتصار على الجنجويد لأن هذا واجبه مع الخضوع لسلطة مدنية خالصة، ستأتي حتما وان طال السفر.

وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله.

(*) كاتب وباحث وقانوني

Exit mobile version