السياسة والبَقّال: ظاهرة المولات (Malls) الاسفيرية وميلاد بقالات الارتزاق السياسي
صلاح الزين (*)

الحرب امتداد للسياسة في حِلِّها وترحالها. والسياسة، كما الحرب، مرآتها ما يراه الناس فيها من مصالح تجمعهم وتُفرِّقهم وهم محمولون على بساط الحلم بالعدالة والحق في الجمال والكبرياء. مرآةٌ مشطورة لقسمين كلٌ يعاين ذاته في النصف الآخر ليَرَى كُلِّيتَهُ في مرآة التاريخ التي لا تنكسر فتنكسر الحياة ليسود الظلم والقبح.
تنحطُّ السياسة بانحطاط الخطاب الذي يَمُدُّها بما تقيم به أَوَدُها من سرديات وأشواق هي هي صبواتُ وأشواقُ الخطاب المنقوع في بنيةٍ تعرِفُهُ ويعرفها وبه تكون سيرورتُهُ في جوار خطابات أخرى، بخصومات أو تناغم، لتكون السياسة، في الممارسة والفكر، مسؤليةً لا تقل عن مسؤولية الغابة في حماية النبع والغزال.
كما تُبدِّل الغابة لبوسها بتبدُّل المواسم كذلك يُبدِّل الخطاب لبوسه السياسي، فكراً وممارسةً، وإنْ اقتضى ذلك انحطاطاً في كلا الفكر والممارسة. فالانحطاط أحد مستويات تخصيب بنية الخطاب والسهر على رعايته.
انفتح خطاب حرب أبريل 2023، في حربهِ الماثلة، على مديات من الانحطاط لم توفر حتى بنية ذات الخطاب. أفضت ثورة الميديا الرقميّة الجارية إلى سيولةٍ غير مسبوقة في أدوات الاتصال والتحشيد، صوتاً وصورة. وهكذا انردف خطاب حرب أبريل فوق هذا المركب الإسفيري وما انفكّ.
أصبح للحرب مقابل افتراضي وفضاء رقمي لا يقل شراسةً عن ذاك الواقعي الملموس: لكلٍ قادتُهُ وجنوده وعدة قتاله وتكتيكاته واستراتيجيات خطابية تعمل وفق ما تقتضيه بنية الخطاب ومستوياتها، افتراضاً وواقعاً، حد صعوبة الفصل والتمييز بين جنود الشارع boots on the ground ونظرائهم الإلكترونيين من مخابئهم ومكامنهم الشاشاتية وما تبع ذلك من تمايز واقِعَيْن تجمع بينهما ضرورة الاصطفاف والتقاطع حتى يكون للحرب معنى، ككل حرب، تروم الانتصار مسنودة بحوامل اجتماعية “هنا” لها نظيراتها الافتراضية “هناك” فيصبح اكتمال وفتوة المحارب “الهنا” ناقصة من غير ما تمده به يد المحارب “الهناك”.
إنها قسمة البرتقالة إلى قسمين كل ينادي الآخر وبه يكون ويفنى بعَدَمِهِ. فكما في الأدب هناك واقعٌ نَصِّي مقابل آخر واقعي كذلك لحرب أبريل وخِطابها جيوش وكائنات واقعية ترتفق بكائنات وجيوش إلكترونية مما يقتضي ضرورة تأسيسات لوجستية من غرف قيادة وأجهزة رادار وخبراء حرب وصحافة وكُتَّاب مدفوعي الأجر يسهرون على تماسك بنية خطاب حرب أبريل “الجانوسي” ذو الرأسَيْن “فلولي” و”جنجويدي” ويعزفان، كوَتَرَيْن متناغمَيْن، في سيمفونية خطاب حرب أبريل حتى وإنْ بدٌْلَ الخطاب مايسترو السيمفونية ومقاعد العازفين: فالخطاب بِدِربة وحنكة شجرة حراز.
أصبح الفضاء الرقمي الملتيميدي مولاً mall بسعةٍ تفوق سعة اتساع حرب أبريل 2023 وسماواتها. توزَّعَ المول على عدة بقالات مملوكة، بوضع اليد، على مُلَّاك (لايفاتية) بمهارات تفوق حنكة النمل في المثابرة والتخزين. فضاء رقمي مشاع ومبذول بكرمٍ وأناقة: لا رخصة ولا رسوم لفتح البقالة ولا قوانين تقتضي اختيار الموقع ولا سلامة المواصفات ولا حتى ما يعرض من بضائع ومنتوجات. لا حِجْرَ على سياسات وخطط واستراتيجيات صاحب المحل في أن يعرض ويسوِّق معروضاته.
وبما أن الحرب، أية حرب، هي حربٌ يخوضها الخطاب المرفوع فوق سقالاتٍ طبقية وفكرية، هي حربٌ بين-خطابية، فقد تناسلت بِقالات السياسة لتنحسر الأطروحات السياسية القادرة على مقاربة الظاهرة وتفكيكها ليحل محلها البَقّال السياسي واليديولوج ideologues التسويقي وشراك الإعلام السوقي: تراجعت الأطروحة والفكر النقدي وتقدمت البِقَالة ومعروضاتها، توارَى السياسي والمفكر ليبرز البَقّال السياسي (اللايفاتي) المتبوع بجمهور استبدل الفضاء الواقعي بالسكنى في الفضاء الرقمي ومَكَثَ هناك يدبِّر شؤون حياته وأسئلة معاشه الجديد.
استطراداً تراجع الجمهور إلى مجموعات مستهلكين بشهيات موزعة ومتنازعة بين ما يعرضه بَقّال السياسة من بضائع مبذولة لمن يدفع أكثر. ومِن ثَمَّ أصبح الفضاء الرقمي سوقاً، يعمل وفق قوانين الاقتصاد من عرض وطلب، يلتقي فيه من يبيع مع من يشتري. وبما أن خطاب حرب أبريل قد تَوزَّعَ ما بين فضائين: “هنا” الواقعي والملموس، و”هناك” الافتراضي والأثيري، وبطبيعتهما السيامية، فقد تناظرت هيئتهما ليكملا بعضهما البعض: كلٌ ارتفق بمليشيته التي تصُد وتحارب كل ما من شأنه أن يفكك الخطاب في كلا قوامه الملموس والإسفيري.
حربٌ هنا وحرب هناك تتمايز في أجهزتها وعتادها وعدتها وتتقاطر وتتقاطع عند سُرّة ما يحفظ لجسد الخطاب، خطاب حرب أبريل، ما يحميه من السهر والحمى. هكذا أصبح الخطاب محروسًا بمليشيات ببندقية ورصاصة لتكملها المليشيا الأخرى المغموسة في مياه الفضاء الرقمي الشاشاتي المنقوع فيما أنجبه سيل ثورة الاتصالات الحديثة.
أضحت الحرب وخِطابُها عرضًا مسرحيًا على خشبة الهواء بمخرجين وسيناريوهات نصية وممثلين وأزياء واكسسوارات تزيد غموض العرض غموضاً. وتُرِكَ لجمهور الفرجة حرية أن يجلس في صالات العرض “الهنا” أو “الهناك” وأن يُسَلِّي نفسَهُ بما يختاره من فشار popcorn ومشروب من غير أن يدرك، في غفلته وانغماسه الجمالي ذاك، ضرورة أن يصطف وعيه الجمالي بالانحياز إلى الكثارسيس الارسطوطاليسي أو التغريب البريختي: إنه مسرح التفاهة!!
هكذا أصبح لخطاب حرب أبريل مُنَظِّرين ومُحرضين وموظفي استقطاب وتجنيد، بأجر أو بدونه، رفقة جنود ومُجنَّدين يسهرون على خير حماية الخطاب والزَوْد عنه في تجسُّدِهِ الواقعي والافتراضي. وكل سعيٍ معقودٍ على نجاحاتِ خيباتٍ يتصدى لها الخطاب بما يملكه من ذخيرة استراتيجيات وفِطانة ومهارة في التاكتيك والتحوُّر.
اِنحطَّ القاموس السياسيّ بانحطاط التفكير وكيفية التوصيل ولغة الخطاب مما أفسح لبَقّال السياسة وسماسرة المول الأسفيري أن يرتاد فضاءات تسمح لبنية خطاب الحرب أن يفصح عما كان مكتوماً وموارباً في عباءة بنيته وهدمها.
اختنق الخطاب بحربٍ هي حربُهُ وانحبس في تناقضات بنية ذات خطاب الحرب. ليَخْرُجَ من احتباسه البنيوي ذاك اِستَلَّ خطابُ الحرب أسوأ ما في كنانته من أسلحة: إعلاء وتسويق الخطاب الإثني حتى تنتقل الحرب من وضعية حرب أهلية (في) السودان إلى حرب أهلية سودانية. والأخيرة هي الجسد الذي يحمل فوق كتفيه الإله “جانيوس” برأسَيْهِ “الفلولي” و”الجنجويدي” في امتداده الإقليمي والدولي.
وهكذا، كلٌ من موقِعِهِ وبعتادِهِ وجنودِهِ وأثاثه، تَرافَقَ بَقّال السياسة، من مسكنه الإسفيري ذاك، وجنرال الحرب، من سكناه في جغرافيا الخراب تلك، ترافَقا وتخاصرا وخلف كلٍ منهما ما يلزمه من شغيلة وعتاد ونصوص، إنْ كانت مجلوبة من الثقافة أو الدين، من ما قالته السماء أو أنبتته الأرض أو حتى أغاني الرعاة والحكّامات وحِكَم وأمثال الشعوب.
حربٌ “هناك” تَحْزُمُ وَسَطَ حربٍ “هنا” لتكون حربُ الخطاب، خطاب حرب أبريل برأسيها “الفلولي” و”الجنجويدي” لحروبات ستولَدُ بعد حين، حين قريب.
فالحرب دوماً مدبوغةٌ بحنينٍ لحربٍ مجاورة لتكُونَ ماءً
يُغرِقُ السراب ويُكَذِّبُ وعْدَهُ بالسقيا والارتواء!!
(*) كاتب وباحث وأكاديمي