الكتابة في مبتدأِها فعلُ اعتذار، اعتذار الإنسان، لبرهة، عن عجزه عن صك الأبجدية حتى تكون الضرورةُ سرجَ المستقبل والقادم بعد أُفول شمس اليوم.
كذلك الحرب، اعتذار الحاضر عن تلكؤ الماضي عن أن يكون ما يليه، شروق شمس اليوم. كلاهما، الكتابة والحرب، خجلُ الماضي عما كان وحياءُ الحاضر وعجزه عما يكون.
الكتابة والحرب توأمان كما الشروق والغروب: كلاهما من يدِ ما ترمي به الضرورة حتى تكون بنسلٍ وذرية. وبذلك اثنتاهما حربٌ ضد القيامة والعدم.
الكتابة حربٌ أخرى تُكتَب، إذ الكتابة نفسها ممارسة لا تخلو من عادات الحرب. فهي تَكتب عن الحرب كشهود وتَنكَتِبُ بها: انكتاب الشهود بما شهد عليه ومن ثم استحالة الكذب لصيرورة الشاهد شهودًا ومتهَمًا في الآن نفسه!!
وقد يجمع بينهما، الحرب والكتابة، ما يتجاوزهما إلى القول بأن كلاهما لا يُعرَّف كما عرَّف الله الحكمة مِن قتْلِ قابيل لشقيقه هابيل لتتعرَّف البشرية على لون الدم ورائحته: كلاهما دمٌ مسال يتبرأ من إحالاته وليهدم كل منهما الآخر لينشطرا ككينونة، ولن ينشطرا !!
الكتابة تُسائِل وتستفسر الحرب عن شهياتها وما تحب، قولاً أو صمتًا. فالحرب، كما الإسفنجة، تُضفي على الكتابة عادات بها تَكتب ما تقترحه الأولى كضرورة لا محيص عنها. كل منهما تستلزم الأخرى وبها تكون، حاضرًا أو آتيًا، كموت محتوم.
عافية الكتابة من عافية الحرب كما زهرة عباد الشمس وشمسها. كشجرة حراز، يتخاصمان عند المرض والاعتلال. لكلٍ نافذته وبهوه في المكان: الحرب تضيق بالمكان وحيِّزاته.
الكتابة تنحتف بفناء أُنس المكان فيكون للذاكرة، كحوض رمل لا يرتوي، خصمان انتصار أحدهما وسادة تطرزها إبرُ الأرق وسؤالٌ شبَّ عن الطوق ودَنا من بستان النكاح.
كلاهما، أيضًا، لا يخرجان عن عباءة الخطاب المنسوجة ظلاله من غزْلِ التاريخ والخصام.
اثنتاهما خطابٌ يتمايز بتمايز موقعهما في غابة الخطاب إذ للخطاب رعاة بعصىٍ بها يهشون القطيع وهم يوردونه نبعًا ماؤه بألوانٍ ترمق بعضها الآخر وتنتظر. كيفما اتفق يلتقيان عند ذاك النبع ولا يوردان ذات الماء فسطح الغدير مرآة سوَّدَها نعاسُ الخطاب المساطُ قطيعُهُ برعاةٍ بعصىٍ غلاظ. تعجز المرآة بسطحها الصقيل ذاك أن تكون مرآةً بوظيفةٍ مشمولةٍ بعلم الفيزياء والانعكاس وقد يطول العجز والانتظار.
للكتابة خبثها ومكرها كما للحرب أيضًا، إذ كلاهما نسلُ نفْسِ النطفة ووَسَعَهُما ذات الرحم والمشيمة.
الكتابة في مُبتدأِها هي ميلادُ دابةِ الصوت والحكايا لحلبة الوجود، هي الصوت وهو يهمس حياءً من الزعيق ورِفقًا بعصافير الأبجدية حتى لا يَنتف زغبها. فالكتابة حرب أخرى أشعلتها حوافر الأبجدية وهي تركض فوق براري الصمت والبياض لتكون الآلهة في كامل فُتُوَتِها بأديان ورسل وخطيئة. فاستدعت الحرب من مخبأ خجلها وقَبْوِها حتى تكون حربًا مؤازرة لما غفلت عنه الكتابة وتخَطَّى فطنتها: الحرب لا تنتظر، هنا وهناك، تذوي لكنها لا تموت، فقط تخبو كيراعة تضيء بموت الشعاع.
الحرب عاهةٌ في جبين الوجود تستلزم التوصيف فكانت الكتابة، متبوعة بالأديان والآلهة، لوصف الجريمة الأولى والتوافق على اللون الأحمر، لون الدم، الموزَّع بالتساوي على هضاب الأيدولوجيا ومعطف الخطاب وشجرة الخيال.
الحرب، كما الكتابة، لا تموت وتفنى كنجّارٍ موته ليس بزوال شكل الطاولة وهيئة الإطار. لهما مهارة النجار وخياله، مهارة الفأس والشجر وقدرة الآلهة على الخلق والندم!!
تُرى، أيهما يكتب الآخر؟؟ أيهما البذرة وأيهما النبتة؟
لهما حربهما الخاصة.
يتخاصمان حول أُبوَّة صك الأبجدية وأزيز الرصاصة كعنكبوت تجادل أمعاءها حول نسيج سُكناها أو خيال يسقي القصيدة بماء السراب.
تجمعهما، الكتابة والحرب، في ذات الآن، النميمة وقيلولات المواضعة، النميمة عن ما عداهما إن كان بوار الشِعر أو اكتشاف رصاصة لا تخطئ الهواء. ويُنِمَّان في قَفا بعضهما فيكون نسلهما.
الحربُ تميمةٌ (amulet)، والكتابةُ فقيهٌ وَجِلٌ يفكُّ حِرزَها وينثرها لريح العقل وبرق الوضوح المركوز في بنية الخطاب كمتعالٍ يشملهما ويفصح عن مسكوتهما.
وكما الحرب، الكتابة لا تعتذر لضحاياها لتكون حربًا وكتابةً أخرى فتكون الحياة. الحرب وشمٌ على عنق الحياة تتجسم الكتابة وعثاءَ محوِهِ كنهارٍ يهرب من لعنات مساء سابق، سابقٍ ومقيم.
الحرب لا تُعرَّف من شدة خفرها كدُورِيٍّ يغافل سهامَ صيادٍ ذَرِب. دومًا هي مفتونة بلُبوس الحياة في ربيع صباها كعاشق مثقَلٌ بأعباء القبلة الأولى!!
كما رأس المال والحزن، الحرب والكتابة لا وطن لهما وإنْ قضَّت الجغرافيا مضجع الحرب لتستعلنها الكتابة كسفورِ شمسِ ظهيرةٍ تجاهد آن تُرمِّد عين العقل والبصيرة.
كائنان يتقاطعان على شارع الخطاب، على مقربة أو بمسافة، مِن ما تحملة الريح من صدح الهتاف.
كلاهما اعتذار عن خطأٍ ما، خطأٍ لم يسامحه خليل حاوي، فانتحر !!
(خليل حاوي لا يريد الموت، رغماً عنه لا يريد الموت) كما كتب محمود درويش.
(*) كاتب وناقد