سؤال: متى تم عقد آخر اجتماع لمجلس الوزراء الارتري؟
في انتظار عدد كبير ومتباين من الردود.
يمكن اعتبار اجتماع مجلس الوزراء من (آخر مظاهر العمل الجماعي) في عهد الطاغية. فهذه الاجتماعات، وإن كانت تتم في ظل غياب مؤسسات تشريعية راسخة ومؤسسات رقابية (الصحافة وأجهزة المحاسبة المختلفة) إلا أن اختفاءها هو بداية تمظهر الاستبداد ووصوله إلى آخر محطاته وهي محطة الحكم الفردي التام غير المنازع.
فالاجتماعات – رغم عللها الظاهرة والباطنة، تشتمل على أجزاء من الحوار والنقاش، والتقييم وهي الأدوات التي يحرص الطاغية على القضاء عليها واحدة بعد الأخرى وصولاً لتثبيت حكمه المطلق.
في الحالة الارترية، اختفت اجتماعات “هيئات”، ولا نقول مؤسسات، الحزب منذ فترة طويلة، ثم لاحقاً اختفت اجتماعات مجلس الوزراء ليؤثر ذلك على انتقال الحكم المؤسساتي (في أدنى درجاته) والقائم على خطط وبرامج وجهات بيروقراطية فعالة إلى حكم فردي مطلق. بموجب هذا الانتقال الحاسم، يعامل الرئيس الوزراء معاملة الخدم الشخصيين له: ينفذون أوامره، ويقبلون محاسبته، وكلما كان الوزير أكثر ليونة ولدونة وقابلية للتطويع حافظ على منصبه على مدى السنين (وزيرة العدل ووزير الاشغال العامة نموذجين). وفي هذا التفاعل السلطوي يختل ميزان القوى لصالح الأقوى، حيث يشتمل التأثير على كل علاقات التفاعل من التلميح إلى التهديد الصريح أو العنف اللفظي، وفي بعض الأحيان قد يصل إلى حد العنف الجسدي، (في أكثر حالات التفاعل تطرفاً كان الطاغية الأوغندي عيدي أمين دادا يجلد وزرائه بالسوط).
إذن، يمثل الغاء اجتماعات الحكومة الراتبة والطارئة المحطة الأخيرة في تحول الطغيان إلى الحكم الفردي المطلق. وقبل الوصول إلى هذه المحطة يتم سجن المعارضين، والتقليل من قيمة الحكومة وعملها (لاحظوا انتقاد الرئيس في لقاءاته المتكررة للأداء الحكومي) وتثبيت فكرة أن الحكومة غير صالحة لعمل شيء عبر الإشانة وعبر التدخل المباشر وتسيير أعمال بعض الوزرات، وعدم تسمية وزراء لوزرات أخرى لفترات طويلة (الدفاع مثلا).
وتنتهي معالم هذه المرحلة بقبض (أذرع الأخطبوط) على خيوط العمل الحكومي كله.
قتل المدينة:
يصاحب قتل دور الحكومة إضعاف ممنهج للبيروقراطية المتمثلة في الخدمة المدنية (فضرب الرأس يشل الأطراف). تمثل الحكومة ووزراتها العصب الحي للمدن، خاصة العواصم، فعندما تغيب الحكومة تتحول المدينة إلى مدينة أشباح. يلاحظ سكان واشنطن العاصمة مثلاً أن مدينتهم أثناء أعياد الميلاد وإجازة الكونغرس تتحول إلى مدينة أشباح. ويقتل الطغيان المدينة عبر قتل العمل الحكومي وإغلاق الجامعات ومنع النشاط النقابي والثقافي وفرض الهجرة القسرية.
والسبب في معاداة الطاغية للمدينة نابع من أن وجود المدينة سابق على وجوده، وهو لا يحب أن يسبق وجوده شيء، فهو “المؤسس” للدولة، والمدن كذلك، وبما أنه لم يؤسس المدينة فإنها تصبح “عدوه” الكامن. فضمن استراتيجية قتل المدن يجنح الطغاة إلى عدة تكتيكات منها: بناء مدن أو أحياء تمجد اشخاصهم أو أعمالهم وتسمى ب بأحياء أو مدن (الثورة، النهضة، الجديدة، البعث… الخ) وتكون هذه الأحياء أو المراكز البديلة هي الأثيرة لدى الطاغية والمفضلة إليه، حيث ينتقل إليها أو يجبر الحكومة إلى الانتقال اليها لا لسبب إلا لأنها من صنع يديه. ففي (عدي هاللو) التي كانت خاملة الذكر وضع الرئيس مكتباً له لا يستدع إليه أعضاء حكومته فقط، بل يستقبل فيه الوفود الرسمية وغيرها.
ومحاربة المدينة التي لم يؤسسها الرئيس تنعكس في حالة البارانويا والشكوك، فالمدن في تشعبها الكبير تعتبر بؤر صالحة للعمل المناوئ للطاغية ومصدر قلق دائم له. فحالما يظهر أي نشاط مقاوم في أي مدينة أو حي فإنه يعاقب بالعزل والرقابة بتخصيص المزيد من الجواسيس ونشر عدد أكبر من النقاط العسكرية والبوليسية. الأمثلة على ذلك تمتد من حي آخريا في اسمرا مرورا بمدينة عطبرة السودانية وليس انتهاء بمدينة حماة السورية التي دكها الرئيس الأسد الأب على رؤوس ساكنيها عام 1982. وتمتد الأمثلة حتى سانتياغو عاصمة شيلي والتي تحولت بعض أحياءها إلى “أحياء معادية” في عهد الديكتاتور السابق اوغستو بينوشيه.
والناظر إلى حال اسمرا اليوم يجد أنها وبسبب الإهمال والخمول والتهجير والرقابة البوليسية الخانقة تحولت إلى مدينة أشباح ليس بها جامعة نشطة تضم الألوف من الطلاب أو مراكز ثقافية أو نقابية تعج بالحركة والنشاط.
وتعتبر حالة طاغية غينيا الاستوائية فرانسيسكو نغيما (1924-1979) أبرز حالات قتل الطغاة للحكومات والمدن. فهذه المستعمرة الاسبانية السابقة تعتبر من أغنى الدول الافريقية بالنفط وتقع عاصمتها مالابو في جزيرة مقابل البر الرئيسي للبلاد، وكان عهد نغيما عهد طغيان راح ضحيته ما بين خمسين إلى ثمانين ألف من المواطنين وأشار دبلوماسيون في مالابو أثناء فترة حكمه بأن العاصمة وبعد توقف اجتماعات الحكومة وانتقال الرئيس للعيش في مدينة مونغمو بالقرب من الحدود مع الجابون أصبحت خاوية على عروشها، حتى أن بعض الوزارات ومن ضمنها وزارة الخارجية كانت مقفلة وعليها حراس. وكان نغيما يصدر أوامره لأعضاء حكومته بواسطة المكالمات الهاتفية وبلغ به المدى أن أعلن نفسه رئيساً مدى الحياة للبلاد في عام 1971. كما أصدر قراراً بمنع استعمال كلمة “مثقف” في الحياة العامة. ويعد نغيما إضافة لديكتاتور اوغندا أمين وديكتاتور افريقيا الوسطى جان بيدل بوكاسا من أسوأ طواغيت القارة الافريقية الذين خربوا بلدانهم بسبب حكمهم الفردي القاسي. ففي عهد هؤلاء الطغاة تحولت كمبالا عاصمة اوغندا ومالابو عاصمة غينيا الاستوائية وبانغي عاصمة افريقيا الوسطى إلى مدن أشباح.
قتل النمو:
وبقتل الحكومة وتدمير المدينة يستهدف الطاغية بصورة أساسية كبح النمو الاجتماعي الذي يمنع ظهور طبقات اجتماعية جديدة لها قابلية توليد الثروة ومن ثم الاستيلاء على السلطة. وحتى لا تنمو هذه الطبقات المهددة، يشجع الطاغية ظهور طبقات طفيلية من التجار الفاسدين وضباط القوات النظامية وكبار موظفي الخدمة المدنية والمنتفعين من الطغيان ويرتبط هؤلاء بالاقتصاد السياسي للطغيان عبر التغذية المتبادلة ويؤسسون لثقافة الاستهلاك والسطحية والتدني الأدائي العام في كل مرافق الحياة وتصبح المدينة في عهدهم عبارة عن مركز يحيط به حزام بائس من الفقر والحرمان والمساكن العشوائية.
وقتل الطغيان لأي نمو حقيقي سببه أن ذلك النمو الاجتماعي سوف يؤدي بالضرورة إلى تغيرات اقتصادية تؤدي بدورها إلى تغييرات حاسمة في السلطة. فالنشاط الاقتصادي الناجح والبناء يحتاج إلى خطوط مواصلات جيدة ومراكز حضرية مزودة بكافة الخدمات إضافة إلى موانئ ومطارات وخدمات اتصال وتمويل معاصرة وكل هذه تحتاج بدورها إلى تشريعات تبنيها وتحميها والتشريعات لا يتم سنها إلا تحت مؤسسات حكم تتسم بالانفتاح والشفافية والديمومة والتنوع وصولاً إلى قمة هرم الحكم الراشد.
فلا عجب، بعد كل ذلك، أن تؤدي تحولات الطاغية بحياة الإنسان والعمران وتسد آفاق المستقبل.
أخيراً: للإجابة على السؤال في مفتتح المقال، يمكنكم الاستعانة بصديق!
(*) كاتب وصحفي ودبلوماسي اريتري