الغروب يفرد رداءه على البحر ويجعل الحمرة لونا تكتسى به الامواج،كوهين يقف على الضفة الشرقية للجزيرة وترسو امامه باخرة متوسطة الحجم،ويقف بجواره رجل من سحنته يبدو انه عربى،ويقف خلف كوهين عدد من العبيد مصفدين بالاغلال،يحيطهم عدد من العساكر يلسعون ظهورهم بالسياط،فيعطى كوهين للرجل العربى كشف باسماء وعدد العبيد،ليعطيه الاخر كيس من القماش تبدو من خلاله نتوءات نقدية،يبدأ عدد من العبيد بالتذمر والتمرد فيلهبهم العسكر بالسياط، يبدو الغضب قد حل بأغلبهم والاحساس بالذل نفث سمومه فيهم،ولما بهم من حسرة يقفز احدهم قفزة تجعله بالقرب من كوهين، ليصفعه صفعة قوية تسقط كوهين على الارض،فيصيح كوهين مذعورا ومناديا فى العساكر: (اكتلوه..اكتلوه..اكتلو العبد)..رواية سرداب الذاكرة ص112-113 .
الرواية من تأليف الكاتب الشاذلى الفنوب وتمثل تجربته الاولى فى كتابة الرواية..صدرت الرواية فى طبعتها الاولى فى العام 2020 عن دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع بجمهورية مصر العربية وتقع فى عدد 160 صفحة من القطع المتوسط.
يوحى عنوان الرواية “سرداب الذاكرة” بأننا سنلج الى الذاكرة والتى من معانيها “الماضى” الذى يضئ ويخفت فى الحاضر فالذاكرة هى ذلك الانتخاب الخلاق للحظات فى الماضى البعيد او القريب والاشتغال بها فى الحاضر ولان هذا الولوج سيكون عبر “سرداب” والتى من معانيها نفق تحت الارض او مكان ضيق او مقبرة تحت الارض ستتحرك الرواية وفقا الى دلالة العنوان اوقريبا منها فى فضاء زمانى هو زمن الاحتلال التركى للسودان حتى ارهاصات الثورة المهدية فى السودان وفى فضاء مكانى لا يقف عند ( الجزيرة ) المكان الاساس لاحداث الرواية وانما يتعداه عبر الحكى الى اماكن اخرى كاستانبول واليونان والقاهرة واليمن وغيرها ولعل ذلك بسبب ان المكان الاساس للاحداث اى الجزيرة هو ووفقا لكل الاشارات مدينة ساحلية او فلنقل ميناء وقد تكون ميناء سواكن بالرغم من ان الرواية لم تصرح بهذا وانما اكتفت بأيراد ما يشبه القرائن،عليه نستطيع القول ان رواية سرداب الذاكرة اتخذت هذا العنوان لانها رواية تنهض على التاريخ ولكنها تبحث فى السرى والعادى واليومى منه، متوسلة بالذاكرة التى من طبيعتها ان تخفت هنا وان تضئ هناك،لذلك احتشدت الرواية باكثر من قصة وحدث.
الرواية التى استلهمت احداثها وشخوصها من حقبة تاريخية مهمة فى تاريخ السودان بسبب انها كانت الفترة التى عرف فيها السودانيون الاحتلال والقهر والاستغلال والاذلال الاجنبى وفى نفس الوقت المقاومة التى توجت بانتصارات الثورة المهدية..فترة تاريخية مهمة لان بسببها اصبح للسودان حضورا عالميا فهناك علاقات الاحتلال الجديد والسوق العالمى واصداء المقاومة السودانية بقيادة المهدى..،نهضت اى الرواية على مستوى تقنية السرد على ما عرف نقديا “بتقنية الراوى العليم” الذى يمسك بكل خيوط الحكى ولا يشارك الشخوص اقدارها…فى رواية سرداب الذاكرة نلمس ما يمكن وصفه “بكثافة الحكى” بدأ من الدقة فى الوصف للاماكن مثال:
“دلف شركس باشا الى مكتبه وجلس متاملا اثاثه الوثير فالكرسى قد صنع من خشب ملكى،ارتفعت سنادة ظهره ارتفاعا ملحوظا وزينت بالفسيفساء والارابيسك،وجعلت بطانة السنادة من ريش النعام،اما الكرسى منجد بخلط ريش النعام مع القطن ليصبح مريحا فى الجلوس لفترات طويلة ..طلاء المكتب من الداخل ازرق فاتح اللون،وطاولة المكتب عبارة عن قطعة فنية نحتت بحرفية ومهارة عالية…الخ”ص10-11 ،وللشخصيات فى ابعادها الثلاث الجسدية والاجتماعية والنفسية مثال:
“…فكوهين رجل متوسط القامة ابيض اللون يرتدى زيا افرنجيا،يضع على جيب البزة ساعة جيب اخرجها لينظر اليها ،بدت رائعة، فقد صنعت برعاية ودقة فائقتين ولونها الذهبى جعلها تبرق عند ارتطام اشعة الشمس بها،ثم يعيدها لجيبه ويتحسس خاتما انيقا زين خنصره الايسر بابهامه ويمتص شفتيه”ص47..، وهو اى كثافة الحكى هو ما ساعد كثيرا فى بناء الاحداث واثرائها،فهذا الراوى العليم والذى لم يستفد كثيرا من تقنيات اخرى كالحوار والاستذكار بل تحمل كل هذا العبء فى الحكى وحده استطاع ان يتجول بنا فى الجزيرة.. فى مؤسسات الحكومة كالمديرية والمخفر وفى الوكالات والكازينوهات وسوق النساء ومقهى سبأ وبيوت الدعارة وبيوت الفقراء والاغنياء وفى المسجد..استطاع ان يقف بنا على التنوع السكانى الذى تعيشة الجزيرة فهناك احباش ويمنيين واتراك ومصريين ويهود واجانب من كل حدب وصوب..وقفنا على تجارة الرقيق وعلى الخيانات الزوجية وعلى الاعمال الخارقة وعلى الاغتيالات وعلى الفقر والغنى الفاحش وعلى الظلم والبطش .تجول بنا هذا الرواى العليم ودونما استثمار يذكر لما يمكن تسميته باقتصاديات الحكى ولعل ما ساعده هنا وبرغم كثافة الاحداث والوقائع فى الرواية خاصة وان الرواية لم تستخدم هيكليا طريقة الترقيم او طريقة العناوين او طريقة الفصول…ما ساعده أى الراوى العليم هو استخدامه لما يمكن تسميته بتقنية (المسلسل التلفزيونى )خاصة على طريقة اسامة انور عكاشة فالرواى العليم كان كثيرا ما يستخدم بناء الصور المشهدية ويضعها فى سياقات على طريقة المسلسل التلفزيونى واليك هذا المثال:
( ينتبه فضل لاوهاج وهو ينتبه لحديثهم فيومئ لجلسائه بان اخفضوا صوتكم ،يبتسم اوهاج ثم يقف ويتوجه صوبهم حتى يبلغهم فيمد يده لهم ليصافحهم:”، ربنا يخلف عليكم ويعوضكم ..اودوغو راجل طيب والحصل ليه دا زعل كل الناس فى السوق،ورافض اى مساهمة تعوضو الحريق وتاكدوا انو حا يناديكم ويتفق معاكم على سداد قروشكم…..الخ)ص51
ثم ينتقل مباشرة الى مشهد اخر ليست له صلة مباشرة بالمشهد الذى سبقه وبأسلوب اكثر شاعرية: ( الليل اوشك على الادلهمام،وانفض السوق الا من قلة يجلسون امام مقهى سبأ،يحتسون طلباتهم من المشروبات،والصمت انيسهم وصوت بعيد متقطع لضفدع يخدش تأمل ذلك الصمت ،واخرون يجلسون على الارض،اخر الشارع امام دكان يحى ولغطهم وضحكهم يرتفع بين الفينة والاخرى، فالانفس افسحن للارواح ارائك الانس والليل سحر يجعل الانس اجمل، وللرجال اذا اجتمعوا قصص وحكايات حول الليل والنساء وبطولات تروى اشبه بالمستحيلات من الخيال نفسه ولكنه انس،كما للنساء ذات اللغط ولكنه بعبق مختلف)ص52 ..لابد ان اشير هنا الى ان ما اشرت اليه من ان الراوى العليم وبالرغم من انه لم يستثمر فيما اسميته اقتصاديات الحكى الا واضافة الى استخدامه تقنية المسلسل التلفزيونى استطاع ان ينوع فى الاساليب بين الدراجة القحة وبين الجمل التقريرية كتلك التى يقدم من خلالها معلومات بعينها وبين اللغة ذات المنحى الشاعرى وبين النثر والشعر ولعل هذا اكثر ما ميز هذه الرواية واعنى هنا الحضور الكبير للتنوع اللغوى والاحتفاء بجماليات الاسلوب والاستناد الى طاقة جبارة فى الحكى ومخزون كبير من القصص والحكايات.
يمكن القول ان هذه الرواية وبالرغم من انها تحوم حول حمى ما يعرف بالواقعية السحرية الا انها تقع ضمن ما يعرف بالرواية التاريخية فهى حاولت ان تحكى ومن ( سراديب الذاكرة ): حكايات السلطة والناس/ القهر والمقاومة/ الحب والخيانة/ التصوف والحب الالهى والقدرات الخارقة/ ثم اخير وليس اخر الثورة وسعة الحياة وجمالها عبر قدرات الروح.
من شخصيات الرواية الملفتة للانتباه جبريل وشركس باشا وعيسى وامين بيه واوهاج والنعيم وباسعيد اليمانى وكوهين ومرغريت وهيلينا وليفاكادا وزكريا المغربى وغيرهم وغيرهن.
مما يحمد للكاتب هو نجاحه الكبير فى ادارة هذا الكم الكبير من الاحداث والشخصيات وان كان من ملاحظة هنا هو ان الكاتب بذل جهدا مضاعفا وطاقة كبيرة فى الحكى كان يمكن ان يوفرها اذا استخدم تقنيات الرواية المعروفة وحيلها كلها او بعضها الا اننا نجد له العذر فى ان (سرداب الذاكرة) هى تجربته الاولى فى كتابة الرواية.
(*) ناقد وكاتب