مع اتساع رقعة الحرب وغموض مصيرها وتكتياتها غير المفهومة، إضافة إلى عسر العيش وتدبير الحياة في النزوح الطويل؛ في ظل فقر مدقع وتعطيل متعمد لتدفق المساعدات الإنسانية من طرفي الحرب، وجد السودانيون أنهم أمام تفتق ورطاتٍ ومصاعبَ جديدة، كل مرة، بازدواجية لا تنتهي، من تحدي المجاعة ونقص الغذاء الحاد، إلى كوارث السيول والفيضانات وتهدم البيوت وفقد المأوى، وإلى انتشار أوبئة الحرب والسيول. ولم يتعافى الناس من مرض “ملحمية العين”، الأخير واسع الانتشار، حتى دهمتهم نازلة مرض “الكوليرا”، الذي يهدد حياة الملايين في مناطق الحرب والمناطق الآمنة على حدٍ سواء.
وهي مرض بكتيري فتّاك، يمكن أن يكون قاتلا خلال ساعات، عادةً ما ينتشر عن طريق الماء الملوَّث، بين أكثر المجتمعات هشاشة، بسبب الفقر المدقع والنزوح والتقشف. وتتسبَّب الكوليرا في الإصابة بإسهال وجفاف شديد ويرتفع خطر الإصابة بوباء الكوليرا عندما يُرغِم الفقر أو الحرب أو الكوارث الطبيعية الأشخاص على العيش في الظروف المزدحمة دون وجود مرافق الصرف الصحي الملائمة والحرمان من توفر الصحة العامة.
ورغم امكانية علاج وباء الكوليرا والوقاية من الوفاة بسبب الجفاف الشديد بسهولة، عن طريق استخدام محلول إمهاء بسيط وغير مكلِّف، الا انها تسببت بقتل نحو 4,007 إنسان حول العالم في 2023، وبحلول منتصف العام 2024، توفي نحو 2,137 إنساناً إضافياً بالوباء، أي ما مجموعه 6,144 إنساناً في خلال عام ونصف العام، بمعدّل 0.78% من مجمل الحالات.
مسارات الحرب.. تَتَبُع الوباء
يربط مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بين التأثير الشديد للصراع في السودان؛ على الوصول إلى الرعاية الصحية، وبين استمرار تفشي وباء الكوليرا الحاد، في جميع أنحاء البلاد، وسط قلق بالغ بافتقار ما يقرب من ثلثي سكان السودان إلى الرعاية الصحية، مع توقف أكثر من 70% من المستشفيات في المناطق المتأثرة بالنزاع الذي يعيق جهود الاستجابة، ويعطل الوصول إلى خدمات الصحة العامة الأساسية، مثمنا في الوقت نفسه، جهود المجتمع الإنساني في السودان على دعم الكشف عن حالات الإصابة بالكوليرا وعلاجها، فضلا عن حملات التطعيم.
وأدى اعتراف السلطات المتأخر بالمرض في اغسطس واعلان وزارة الصحة الحاجة الماسة لمزيد من مراكز العزل، لمجابهة الزيادة في الإصابات وسط تزايد دعوات أممية ودولية لتجنيب السودان كارثة إنسانية جديدة، بدأت تدفع الملايين إلى حافة المجاعة والموت، جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18، أدى ذلك الاعتراف المتأخر، بحسب ناشطين بمواقع التواصل الاجتماعي، حذروا من تدهور الأوضاع الصحية، إلى تفشي الكوليرا في عموم البلاد.
وفي أغسطس ٢٠٢٤ قالت اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء السودانيين إن إعلان وباء الكوليرا جاء متأخرا، مما أدى الى تفاقم الوضع وانتشار المرض بالولايات الامنة “على الرغم من تحذيراتنا المتكررة بضرورة الاستعداد المبكر لطوارئ موسم الأمطار والاستفادة من تجارب السنوات الماضية”. وأرسلت النقابة في بيانٍ، نداءً لكل أصدقاء السودان والمجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والمحلية لتقديم المساعدات العاجلة لدرء الوباء. “بينما لا تتوفر لدينا معلومات دقيقة عن الوضع الوبائي في الولايات التي تشهد عمليات عسكرية نشطة، نجدد مطالبتنا العاجلة بوقف هذه الحرب التي أثرت سلبًا على فعالية النظام الصحي”. وطالبت النقابة، بحسب البيان، “حكومة الأمر الواقع”، حدّ صفها، بالشفافية الكاملة في التعامل مع المرض، بما في ذلك عدد الحالات، وتوفر الإمدادات الدوائية، وعلاج الحالات، وعزل حالات الاشتباه، والتثقيف الصحي، والإمداد الصحي لمياه الشرب، والتدخلات المجتمعية، بالإضافة إلى تتبع ديناميكية انتشار المرض إلى الولايات الأخرى.
وأطلقت وزارة الصحة الإتحادية ومنظمة الصحية العالمية واليونسيف، العام 2019، حملة تلقيح كبرى ضد الكوليرا،عن طريق الفم لأكثر من 1.6 مليون شخص، تتراوح أعمارهم بين عام واحد وما فوق، في ولاية النيل الأزرق وسنار، بتمويل من التحالف الدولي للقاحات (GAVI) وتدريب أكثر من 3560 شخص ليقوموا بمهمة التلقيح وأكثر من 2240 شخص للعمل في إطالر التعبئة الاجتماعية.
وأوضح مكتب أوتشا أن عدد الحالات المشتبه بإصابتها بالكوليرا ارتفع، في ديسمبر 2023، بنسبة أكثر من 100%، وأبلغ عما يقرب من 8,300 حالة مشتبه بها وأكثر من 200 حالة وفاة، في تسع ولايات، وفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة السودانية.
وارتفعت حصيلة الاشتباه بالمرض الفتاك، ذلك الشهر، لأكثر من 1,800 حالة في ولاية الجزيرة، حيث أدت الاشتباكات العنيفة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، إلى نزوح ما لا يقل عن 300 ألف شخص.
أعلن مركز عمليات الطوارئ الاتحادي، (الاحد 15:9:2024) تسجيل 232 إصابة جديدة بوباء الكوليرا بينها حالة وفاة واحدة، ليرتفع العدد التراكمي للإصابات إلى 8350 إصابة، بينها 270 وفاة، في 8 ولايات تأثرت بالوباء.
انتشار واسع
واضطردت الاصابة بالمرض بمركز العزل بمستشفي شندي التعليمي، إلى 6 حالات، توفيت حالة لرجل سبعيني قادم من نهر عطبرة، وحالتي شفاء وخروج، و3 حالات تحت العلاج، بينما بلغ عدد الاصابات التراكمي بولاية نهر النيل 920 حالة وارتفع العدد التراكمي للوفيات الى 36 حالة، وصعد تراكمى التعافي إلى 683 حالة.
وسجلت محلية “الدندر” والقرى المحيطة، الواقعة تحت سيطرة الدعم السريع، ارتفاعا كبيرا في حالات الكوليرا بلغ عدد الوفيات فيها 12 حالة عن يوم واحد، بحسب ناشطين. وفتك المرض بأهلي منطقة “قلع النحل” بولاية القضارف التي وصلت الحالات فيها الى أكثر من 200 مصاب، وثلاثة حالات وفاة، أعلنت حيالها وزارة الصحة والتنمية الإجتماعية بالولاية، عن جملة من التدابير، بالتعاون مع الشركاء، لمكافحة حالات تفشي الكوليرا بعدد من محليات الولاية، تشمل زيادة مراكز العزل لمعالجة الحالات ومنع الانتشار وتنفيذ حملات الإصحاح البيئي ومكافحة نواقل الأمراض، بجانب زيادة برامج التوعية الصحية المقدمة للمجتمعات ومناطق الهشاشة الصحية.
وأعلنت “غرفة طارى بحري” عن “تفجّر” الوضع الصحي في المدينة ووصوله إلى أقصى “درجات التدهور” في ظل غياب المؤسسات الصحية التابعة للدولة عن العمل في المناطق المحاصرة، وتشهد المدينة انقطاعاً كاملاً في سلاسل الإمداد الدوائي منذ ما يقارب العام والنصف، ما أدى إلى تفشي الأمراض المرتبطة بسوء التغذية والتلوث البيئي، بالإضافة إلى غياب المواد الغذائية الضرورية. وقالت في نشرة على صفحتها بـ”فيس بووك” اطلعت عليها “أتر”، إن بحري تشهد انتشاراً واسعاً لأمراض الإسهال المائي الحاد والكوليرا، وأمراض أخرى لم يتم التعرف عليها بعد، نتيجة غياب أدوات الفحص وتوقف المستشفيات، وناشدت الغرفة جميع المنظمات الدولية العاملة في القطاع الصحي، والمتخصصة في المجالات الإنسانية الأخرى، بالتدخل “العاجل والفوري”.
وكشفت مصادر طبية، عن تسجيل 4 حالات اشتباه بمرض الكوليرا بمحلية فوربرنقا، ارسلت لمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور مع ارتفاع ملحوظ في عدد الاصابات بالاسهالات والملاريا بعد أن غمرت السيول والفيضانات 7 احياء سكنية خلفت أوضاعا صحية سيئة في ظل شح كبير في المعدات الطبية والأدوية وانقطاع التواصل بين وزارة الصحة بالولاية والمؤسسات الصحية الاتحادية منذ اندلاع الحرب، بحسب تصريح سابق لمدير عام الوزارة، بما في ذلك انعدام ارسال العينات المرضية للمعامل الاتحادية لفحصها والتأكد منها.
ويقول وزير الصحة هيثم محمد ابراهيم إن الوضع الوبائي لمرض الكوليرا يتزايد في البلاد التي سجلت حتى كتابة هذا التقرير 5 ألف حالة، وسجلت مدن كسلا والدامر وحلفا الجديدة أعلى معدلات الاصابة، فيما أعلنت السلطات الصحية بالولاية الشمالية خلو مدينة مروي من الوباء، لكن الاعداد اكبر بكثير، بحسب متابعين، لسببين، ليس هنالك رصد لمناطق سيطرة الدعم السريع وهنالك حالات لم تصل للمستشفيات وهي بذلك خارج نطاق الرصد والمتابعة.
بِنيات تحتية منهارة
يعزي الدكتور محمد حامد، الخبير في الصحة العامة انتشار وباء الكوليرا في السودان، حتى قبل الحرب، إلى عوامل ترتبط بشكل مباشر بالبنية التحتية الصحية وظروف المعيشة العامة، وضعف البنية التحتية لأنظمة الصرف الصحي الملائم ونقص المياه النظيفة. “الكوليرا تنتقل بشكل رئيسي عبر المياه الملوثة، فإذا كانت مياه الشرب مختلطة بمصادر ملوثة، فإن خطر انتشار المرض يزيد”. يقول في حديثه مع “أتر” ويزيد أن التوعية الصحية المحدودة في الوقت الراهن بممارسات النظافة الشخصية وغسل اليدين ومعالجة المياه المنزلية، تلعب محوريا في تفشي المرض، خاصة في المناطق المتأثرة. “الحرب وانهيار النظام الصحي في السودان زادت من تفاقم الوضع، حيث تعرضت المستشفيات والبنية التحتية الصحية للدمار، مما أدى إلى صعوبة احتواء الأمراض المعدية”. مضيفا أن نزوح السكان وزيادة الضغط على الموارد الصحية المحدودة والنظام الصحي الهش، حتى ما قبل الحرب، سهل من انتشار الأمراض. “انتشار الكوليرا في السودان، ناتج عن مزيج من العوامل المتعلقة بنقص الخدمات الصحية والبنية التحتية، بالإضافة إلى تأثير الحرب الذي زاد من تعقيد الأمور”. يقول حامد. ويضيف مدني عباس ، الوزير السابق في حكومة الفترة الانتقالية، إن الفقراء يكونون اكثر تأثرا بالكوليرا أو غيرها من الوبائيات. يقول في حديث مع “أتر”: “الفقراء هم الاكثر تأثراً بسياسات الدولة الاقتصادية ويشكلون حوالي نصف السكان في احصائيات الحكومة للفترة ما قبل 2009، وثلثي السكان في بعض الاحصاءات الأخرى، حيث يتعرض السودانيون لافقار سياسي ممنهج وعدالة اجتماعية غير متساوية”. ويعزي الدكتور أحمد إبراهيم، المختص في طب المجتمع تسارع ارتفاع معدلات الاصابة بالكوليرا، مقارنة مع تسجيل أول حالة قبل 4 أشهر، إلى فشل وعجز السلطات عن تقديم الخدمات العلاجية للمرضى في الوقت المناسب. يقول في حديثه مع “أتر”: “العنابر المخصصة لعزل المصابين في أغلب المستشفيات لا تناسب طبيعة وسرعة الوباء في الانتشار وتفتقر لأبسط مقومات العزل الناجح، بالاضافة إلى النقص الحاد في امدادات الدواء”. ويضيف: “من الضرورة أن تكون عمليات العزل بدقة طبية عالية، لضمان محاصرة المرض وعمل جميع الاحترازات الصارمة واصحاح مجال العمل نفسه”.
(*) نقلا عن منصة (أثر)