مقالات

في معنى التحالف وأخلاقيات السياسة، تداخل مع صديقي معتصم بيضاب

خالد كودي (*)

في مقاله الأخير، يكتب صديقي معتصم مستنكرًا التحالف السياسي والعسكري الذي وقعته الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال مع قوات الدعم السريع، ضمن “ميثاق تأسيس السودان الجديد”، ويخلص إلى نتيجة مدهشة تقول:

 “بمجرد توقيع التحالف، تصبح الحركة الشعبية شريكة أصيلة في الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع، حتى اللحظة”

ومعتصم بيضاب صديق طفولة، و من أصدقاء الحركة القدامي والمعولين عليها والمراهنين علي مشروع السودان الجديد، وفي اعتقادي لايزال!

نحن هنا أمام قفزة في حسابات المنطق السياسي الاستراتيجي، والأخلاقي، والقانوني، والتنظيمي، وحتى التاريخي

فلنبدأ من آخر العبارة، تحديدًا عند قول الكاتب: “إن الأخلاقي يعلو على السياسي، مهما بلغت براغماتيته”.

 مقولة جميلة، لكنها – مع كامل الاحترام – تصلح للاستخدام في خطب التخرج أو صالونات الأدب، لا في واقع السياسة كعلم وفن وتاريخ من التعقيد، لا مجال فيه للرغبات الطوباوية.

أولًا: ما هو التحالف السياسي؟

والأستاذ معتصم أبو العافين ان التحالف السياسي، كما تعرّفه الأدبيات السياسية، هو:

(توافق مرحلي بين أطراف مختلفة على برنامج أو أهداف محددة، دون أن يعني ذلك اندماجًا تنظيميًا، أو تطابقًا أيديولوجيًا أو 

قيميًا) 

– (مايكل والزر، في:

Just and Unjust Wars)

https://www.amazon.com/Just-Unjust-Wars-Historical-Illustrations/dp/0465052711

 من جامعة برينستون تجد كتابه علي الرابط أعلاه.Michael Labanالكاتب بروفيسور 

(التحالف وسيلة من وسائل القوة، لا يعكس التماثل بين الشركاء، بل يعكس حاجتهم المشتركة لكسر ميزان قوة مختل، أو دفع خطر أعظم)

 – حنة آرنت.

بالتالي، من البديهيات السياسية أن أطراف التحالف يحتفظون بهوياتهم، ومواقفهم، ومسؤولياتهم، ولا يُنسب إليهم ما لا يفعلونه. (فحيلك ياصاح) وعندك تحالف الشيوعيين والديمقراطيين في الجبهة الديمقراطية، وحتي تحالف كتاءب البراء والجيش السودان وجبريل مناوي والكثيرين من النخب الاكاديمية والمثقفين… واليه!

ثانيًا: هل تحمّلت بريطانيا جرائم ستالين؟

حين تحالف تشرشل مع ستالين لهزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية، لم يقل أحد من البريطانيين – ولا حتى نُقّاد المحافظين – إن بريطانيا أصبحت شريكة في مجازر غولاغ، أو مذابح أوكرانيا، أو التطهير العرقي في بولندا الشرقية. لا أحد حمّل تشرشل مسؤولية مذابح ستالين.

بل إن ونستون تشرشل نفسه قال:

(إذا دخل هتلر الجحيم، فسأتحالف مع الشيطان)

ثالثًا: أمثلة لا تُحصى من التحالفات غير المتطابقة ، هنا عدد منها ،ولو اردت المزيد فقط اطلب! 

– تحالف الولايات المتحدة مع طالبان في الثمانينات ضد السوفييت

– تحالف الولايات المتحدة مع صدام حسين خلال حربه ضد إيران

– تحالف مانديلا مع قيادات النظام الأبيض الإصلاحي في جنوب إفريقيا

– تحالف المؤتمر الوطني الهندي مع الشيوعيين والليبراليين

هل صار مانديلا مؤيدًا للفصل العنصري لأنه تفاوض معهم؟ هل أصبحت أمريكا شيوعية لأنها تحالفت مع ستالين؟ الخ..

رابعًا: عن عدم المعرفة أو التلفيق:

حين يقول الأخ معتصم إن توقيع التحالف يجعل الحركة الشعبية “شريكة في الجرائم المستمرة للدعم السريع”، فلدينا احتمالان:

إما أن الكاتب نسي طبيعة التحالفات السياسية وتنظيماتها، وهذا عذر لا يليق بمناضل قديم يعيش في اوربا منذ عقود، مهد الفقه الدستوري الحديث، أو أنه يتعمد والاتهام الجزافي، في محاولة لتشويه الحركة الشعبية، والتشويش على أحد أكثر المشاريع وضوحًا وجذرية في إعادة تأسيس السودان، ولا اعتقد ان أي من الاحتمالين واردات في حالة الصديق معتصم، ولكن اعتقد انه الجرح الشخصي من الواقع الذي خلقته المواجة المسلحة بين الجيش السوداني ومليشياته والدعم السريع وماخلفته هذه المواجهه من تدمير حياة معظم الاسر السودانية ما خلقه من حالة الإحباط .

خامسًا: عن القانون والمسؤولية الجنائية:

وفقًا لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية في القانون الدولي (نظام روما الأساسي)، لا يُحاسب أي طرف سياسي أو عسكري على جرائم طرف آخر في حال عدم وجود أمر مباشر أو مساهمة مادية في الجريمة.

الموقع الرسمي للمحكمة الجنائية الدولية (ICC):https://www.icc-cpi.int

النص الكامل لنظام روما الأساسي: (PDF – نسخة معتمدة بالأمم المتحدة)

https://www.icc-cpi.int/sites/default/files/RS-Eng.pdfhttps://www.icc-cpi.int/sites/default/files/RS-Arabic.pdf

مسؤولية الأفعال لا العلاقات: فقه القانون الدولي في وجه التلفيق السياسي:

“القانون الجنائي الدولي لا يعاقب على العلاقات، بل على الأفعال.”– أنطونيو كاسيزي، أول رئيس لمحكمة جرائم (ICTY) يوغوسلافيا السابقة

 

“من يحمّل حزبًا مسؤولية جرائم غيره، فقط لأنه تحالف معه، يُقوّض الأساس القانوني للمحاسبة الفردية، ويقع في فخ العدالة الانتقائية”

Journal of International Criminal Law, Vol. 7, No. 3 (2009), pp. 445–459

مبادئ قانونية وأخلاقية راسخة في القانون لايمكن التحايل عليها:

– المسؤولية الجنائية فردية (المادة 25 من نظام روما الأساسي).

– لا عقوبة بدون مساهمة مباشرة أو تحريض أو أمر بارتكاب الجريمة.

– المحاكم الدولية قضت مرارًا بأن التحالف السياسي أو العسكري لا يُنتج مسؤولية تلقائية.

ومن يريد سوابق، فهي متاحة!

: في الأخلاق السياسية

“”التحالف في السياسة هو علم الضرورة، لا مسرح الفضيلة.”– ماكس فيبر، في السياسة كمهنة

“من لا يُميّز بين المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية القانونية، يُفضي بالعدالة إلى الابتذال”

Hannah Arendt, Responsibility and Judgment, 2003

التحالف، في القانون والممارسة السياسية، هو ببساطة: اتفاق مرحلي بين أطراف مستقلة، حول أهداف أو برامج محددة، يحتفظ فيه كل طرف ببنيته، وتاريخه، وخياراته، ومواقفه.

الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لم ترتكب جرائم، ولم تشارك فيها، ولم تصمت عنها، بل أدانتها علنًا، سواء أتت من طرف عسكري أو مدني، من الجيش أو الدعم السريع، أو من أي قوة اخري. إن محاولة تحميلها – بيسر عجيب – مسؤولية أفعال غيرها، فقط لأنها وقعت ميثاقًا سياسيًا، هي إهانة لا للمنطق وحده، بل للقانون الدولي نفسه.

نظام روما الأساسي – لمن فاته الأمر – لا يُحاسب الأطراف على العلاقات، بل على الأفعال: التحريض، الأمر، المشاركة، التواطؤ، العلم المقرون بالسكوت المتعمَّد. هذه معايير المسؤولية الجنائية. أما العناق، والجلوس في غرفة تفاوض، والتوقيع على ورقة سياسية، فليست أركانًا لتكوين جريمة، إلا في قواميس المحاكم الافتراضية لخيال من يزعم خلاف ذلك.

 الحركة الشعبية لا تحتاج شهادة براءة، لأنها ببساطة ليست متهمة. من يُطالبها بها، فليقدّم لائحة الاتهام أولًا

 توقيع الميثاق لا يُحمّل الحركة تاريخ غيرها، تمامًا كما لم تُحمَّل بريطانيا جرائم ستالين حين تحالفت معه لهزيمة هتلر. ولم يُحاسب مانديلا لأنه تفاوض مع نظام الأبارتايد. ولم تُصنّف واشنطن شريكة في جرائم المجاهدين، رغم أنها سلّحتهم ضد السوفييت. التحالفات تُبنى على المصالح السياسية لا على التماثل الأخلاقي الكامل. وهذه ليست تبريرات، بل أساسيات أولية في علم السياسة، بديهيات يدرسها طلاب السنة الأولى!

باختصار: من يخلط بين التحالف والتماهي/الاندماج، وبين التفاوض والتواطؤ، يسيء إلى الفهم قبل أن يسيء إلى الحركة. ومن يصرّ على تحميل الحركة أوزار غيرها، فهو إما غير متابع، أو يشارك – عن قصد – في معركة تشويه مشروع السودان الجديد وفي الحالتين، الرد الأمثل عليه مثل مانفعل بمثل هذا المقال. فالمعرفة، كما يقول إدوارد سعيد، هي أفضل أدوات المقاومة!

 خطاب الأخ معتصم يعتمد على الانفعال لا التحليلويستخدم ما يسميه النقاد “تكرار العناوين العاطفية مع تغييب كامل للحقائق”. وفي الرد التالي نوضح، بهدوء، جملة والافتراضات التي بُني عليها المقال:

أولًا: غياب الحجة، حضور الهتاف:

المقال مكتوب بلغة حماسية، يغلب عليها التوصيف السياسي المعبّأ (عمالة – مليشيا – خيانة – كارثة أخلاقية) دون أي تفكيك موضوعي لماهية التحالف السياسي من اصلو، ولا أي استناد إلى القانون الدولي أو التجارب السياسية. الأستاذ معتصم يفترض أن الأخلاقيات السياسية تتحدد بالمزاج الشخصي، لا بالمبادئ والمؤسسات والنصوص! 

ثانيًا: ما معنى التحالف؟

التحالف السياسي، كما تُعرّفه العلوم السياسية، هو اتفاق باجل معلوم بين أطراف مستقلة لتحقيق أهداف محددة، مع احتفاظ كل طرف ببنيته التنظيمية وخطابه وهويته الخاصة. الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لم تندمج في قوات الدعم السريع، ولم تُبايع قيادته، بل وقّعت ميثاقًا سياسيًا مشروطًا ومعلنًا، يتضمّن:

– علمانية الدولة

– العدالة التاريخية

– إعادة بناء جيش للسودان

– تفكيك المركزية

– إنهاء الإفلات من العقاب … الخ…

فهل أصبح السعي لتحقيق هذه المبادئ عمالة؟ وهل صار من يطالب بجيش وطني، وبدولة بلا تمييز حليفًا للمشروع الإمبريالي؟

ثالثًا: الحملة على الحركة الشعبية… محاولة لخداع الجماهير:

إن الاتهامات التي طالت الحركة الشعبية لا تستند إلى وقائع، بل إلى شحنة عاطفية لا تميّز بين التحالف المرحلي والتواطؤ التاريخي. والأكثر فداحة أن المقال يتغافل عن تاريخ الدعم السريع ذاته، وهو في الأصل صنيعة الدولة المركزية التي لا تزال المؤسسة العسكرية القائمة تمثلها. 

رابعًا: عن حميدتي والعلمانية:

يرد الأخ معتصم بلهجة تهكمية على نداءات العلمانية في الميثاق، زاعمًا أن حميدتي لا يمكن أن يؤمن بها، وأن تصريحاته السابقة تُثبت ذلك. (وراي كاتب الرد في حميدتي مبذول).  لكننا في هذا السياق نسأل: منذ متى كان إيمان الطرف الآخر شرطًا لالتزامه السياسي؟ هل كنّا ننتظر من ستالين أن يؤمن بالديمقراطية الليبرالية مثلا كي نُبرر تحالفه مع تشرشل وروزفلت؟ 

الميثاق السياسي ليس اختبارًا للنيات، بل التزام نصّي وبرنامجي. ومن لا يلتزم به، يُحاسب بناء عليه، هذا كل مافي الامر!

خامسًا: الحديث عن الإمارات والمؤامرة الكونية:

ما طُرح في المقال من نظريات حول التدخل الإماراتي، وشحنات السلاح، وممرات التهريب، لايصلح  ليُبنى عليه تحليل سياسي موضوعي. فإذا كانت الحركة الشعبية بهذه السذاجة، فكيف ظلت عصية على الاختراق لعقود؟ وإذا كان الحلو يُدار من أبوظبي، فلماذا رفض كل محاولات تسوية الخرطوم؟

الحركة الشعبية اكثر جهة ناضجة في السودان، امنت كل ماهو استراتيجي في مناطق سيطرتها وقننته بقوانين بما في ذلك قوانين تضبط استخدام الأرض، وتبني علاقاتها وفقا لمصالح الموطنين. 

سادسًا: لماذا “تأسيس”؟

وقّعت الحركة الشعبية ميثاق “تأسيس” لأن المشروع الذي تقوده هو محاولة جادة لتفكيك دولة القهر من الداخل، عبر تحالف واقعي يُسقط سلطة الانقلاب، ويُعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لدولة بلا تمييز، بلا مركزية، بلا استبداد. ولأن الحركة لا تقود نضالًا أخلاقيًا في الفراغ، بل مشروعًا سياسيًا متكاملًا، فإنها تدخل تحالفاتها بوعي، لا برومانسية، وبعقلانية، لا بانفعال، وهذا لان كل التجارب السابقة قد فشلت ولايوجد مشروع للخروج من الازمه الحالية.

أخيرًا: أخلاقيات من، وبأي معيار؟

التحالف الذي وقّعته الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لم يكن صفقة لتجميل أحد، ولا غطاءً سياسياً لطمس الماضي، بل كان التزامًا مكتوبًا ببناء سودان جديد على أسس واضحة: علمانية الدولة، العدالة، والمحاسبة، دون انتقائية. التحالف لا يمنح البراءة ولا يمنع المحاسبة، لكنه ينشئ ساحة جديدة للصراع السياسي على أسس مغايرة. ومن يهاجمه جزافيا وانطباعيا دون علم، إنما يهرب من مواجهة أسئلة الواقع، إلى دفء الخطابة الطهرانية. الحركة الشعبية لم تدخل هذا التحالف لتبيّض تاريخ أحد، بل لتعيد تشكيل موازين القوة وتوسّع هوامش التغيير الجذري. ومن لا يرى ذلك، فمشكلته ليست مع التحالف ذاته، بل مع الفكرة التي يُعبّر عنها: مشروع السودان الجديد

ختامًا: من يملك نقدًا، فليتقدّم بنص:

الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال لا تطلب شهادة براءة من أحد، لأنها لم تُتّهم أصلاً، ولم تخن يومًا جماهيرها، ولن تفعل. ومن لديه ما يدّعيه، فليقدّمه في صورة حجة موثقة أو لائحة اتهام قانونية، لا عبر خطابات تعبويّة تُخدم، عن قصد أو عن غفلة، مصالح أعداء المشروع الوطني العادل الذي تناضل من أجله الحركة.

تحالف “تأسيس” ليس مجرد اصطفاف عابر، بل خطوة كبيرة في تاريخ السودان المعاصر، تحمل في طياتها إمكانية إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة بناء السودان على أسس جديدة من العدالة والمساواة. إنه ليس نهاية المعركة، بل بدايتها الحقيقية.

وعليه، فإن ما يُنتظر من أصدقاء الحركة ليس التسرّع في إصدار الأحكام، بل التفكير، ثم إعادة التفكير، ثم الوقوف بوعي مع مشروع يسعى لفتح أفق جديد في تاريخ السودان، لا لإعادة إنتاج اليأس.

كما قال إدوارد سعيد: المعرفة مقاومة. ونحن نضيف: النضال ليس هتافًا غاضب، بل بناءٌ، ومراجعةٌ، وتراكمٌ واعٍ

النضال مستمر، والحركة الشعبية باقية على عهدها، ووعي الجماهير أعمق من محاولات التشويه. ومن لم يدرك ذلك اليوم، فسيقرأه غدًا مكتوبًا في سطور التاريخ

.

(*) كاتب وتشكيلي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى