Uncategorizedقضايا

في مقام الأستاذ كمال الجزولي

طارق كانديك (*)

 يقولُ المتنبئ:

“إِذا كانَ ما تَنويهِ فِعلاً مُضارِعاً

مَضى قَبلَ أَن تُلقي عَلَيهِ الجَوازِمُ

وَكَيفَ تُرَجّي الرومُ وَالروسُ هَدمَها

وَذا الطَعنُ آساسٌ لَها وَدَعائِمُ

وَقَد حاكَموها وَالمَنايا حَواكِمٌ

فَما ماتَ مَظلومٌ وَلا عاشَ ظالِمُ”.

ترددتُ كثيراً، قبلَ أن أشرعَ في كتابةِ هذا المقال المتواضع، فإن جاء ملبيا لمرادي فذلك فضل من الله، وأن تقاصر دونه، فلي في محبته الأكيدة ما يغنيني عن مسغبة الحرج، وكيف لا أترددُ وهو يتعلقُ بقامةٍ قانونيةٍ وأدبيّةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ، بذلتْ جَهداً لا تخطئه العينُ في تشكيلِ وعي أجيالٍ متلاحقة، كيف لا وأستاذنا العالمُ الكاتبُ الشاعرُ المثقفُ السياسيُّ المرموق كمال الجزولي عاش بالرصانةِ المستحقةِ لكل مجالٍ خاض فيه، و برَعْ، وألزمَ – تبعاً لذلك – أن يتقيّد من يحادثه أو يجالسه، أن يتحدّثَ عنه بذاتِ الرصانةِ التي تجعلك ترى الشيءَ بوضوحٍ وتلقي عليه السمع وأنت شهيد .

قلتُ لنفسي، من أنا حتى أتصدّىٰ لهكذا مرتقى، لكنّها محبتَه التي أحملها له ولا أظنني مغالياً إن قلت إنه كان يشعرني دوما باهتمامه ومحبته، مما خففّ غلواء سؤالي المستحق في نفسي فواتتني الجرأةُ من بعدِ ذلك لئِن أكتبُ عنه ما أحسّه (وهو جهدُ المقلِ دون شك) عن جوانبَ تلمستُها فيه بالمعايشةِ المباشرة، ومن خلال عضويتي في هيئة الدفاع لثلاث دعاوي جنائية، تشرفتْ الهيئةُ برئاستهِ لها، وعلى رأس هذه الدعاوي الجنائية، تلك الدعوى ذائعةُ الصيتِ المتعلقةُ برفيقي الأستاذ وجدي صالح والأستاذ الطيب عثمان يوسف وآخرين من لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو “1989م” ، والتي تصدى لها الأستاذ كمال، صبيحة انقلاب “25” أكتوبر سيء الذكر، في وقتٍ كانت الملاحقة لكلّ رموز الثورة على أشدّها، وكان هو ولفيفٌ من الأساتذة المحامين والمحاميات، في مقدمةِ الذين هرعوا، لمتابعةِ الدعاوي الجنائية الجزافية، طرقاً لأبواب التحقيقات الجنائية بحري ونيابة أمن الدولة والنيابة العامة .

ربما في وقتٍ لاحق لم يحن أوانه بعد سأتناولُ تفاصيلَ ما دار في تلك الدعاوي وما ظلّ يقدمه الأستاذ فيها من توجيهات، وملاحظاتٍ غايةً في الدّقةِ والصرامةِ المهنيةِ اللازمة والمستحقة لهكذا دعاوي جنائية.

ولعل أنه مما دفعني لأن أستهلَ هذه المقالة خواطر عنه؛ هو غبطتي بأمره الواضح لي بالجلوس على مكتبه في غيرِ ما مرة، لاقتراح فقرات إحدى المذكرات القانونيّة وكثيرون يعلمون معنى أن يضعكَ الأستاذ القامة كمال الجزولي في هكذا موضع، ثم طفقتُ أكتبُ الفقرةَ وأتلوها على الزملاءِ والزميلات الحضور في اجتماعِ الهيئةِ؛ وهو يرهفُ السمعَ في تواضعِ العلماءِ واهتمام العارفين، ثم يصيحُ بي فجأةً: ( في شولة هنا أقيف يا أستاذ شوية)، ويتتبع المذكرة حرفاً حرفاً ومعنىً معنىً، حتى يصبحَ المراد من قبل الشولةِ ومن بعدها مفهوما وكلّ علامةٍ في موضعِها، ثم يستمعُ بتواضع العلماء لملاحظاتِ الحضور ويستدرج الجميع للمشاركة.

تميّز الأستاذ كمال بالصراحةِ والوضوحِ الكبيرينَ وأشتهر بهما في مواجهةِ الجميع وهما خصلتانِ مائزتانِ لتجربةٍ متراكمةِ المصادر؛ وهاتان الخصلتان لمن لا يعرفه جيّداً ربما كانتا سبباً في مهابةِ البعض له والابتعاد عنه، لكنهما كانتا من أحبّ صفاته التي حبّبتني فيه، ثم الشجاعةُ اللازمةُ الحاضرة بانفعال لا تحمد عقباه؛ وهو في قمةِ انفعاله، محتجاً على قرارٍ ما؛ لا يستنكفُ أن يرمي المرحَ سهلاً بين ثنايا غضبه، فيحيلُ وجومَ الحاضرينَ إلى ضحكٍ صادقْ.

ظلّ الأستاذُ على الدوامِ يحرصُ على النظامِ بأن يرتبَ مقرر اللجنةِ الأستاذ المحترم محمود الشاذلي الدعوة لاجتماعاتِ الهيئة، وأن يراعي هو حين انعقاد الاجتماع، الدقة في أجندته، واحداً تلو الآخر، مع تلاوةِ ملخصِ كلّ جِندٍ ومراعاة الاتفاق حوله من الجميع؛ وهو القادرُ على أن يملي علينا ما يراه مناسباً منفرداً، لكنّ يقدسُ الزمالةَ والعمل المهنيّ المشترك ولا يفعلُ إلا بعد أن يتناولَ جميعَ الآراءِ مهما كانت بعيدةً عن الموطنِ المراد، فهو لا يزدري الأفكارَ بل يصحّح و يقوّم، وتلك لَعَمري ميزةً لا يتّمتعُ بها ويتقنَها سوى القادةُ ذوي البصيرة؛ وهو الرائدُ في هذا المجالِ بلا جِدال .

إنّ مشاركاته العديدةُ خلالَ سنيّ حياته المهنيةُ الطويلةُ العامرةُ بالنماذجِ المتعلقةِ بالدفاعِ عن حقوقِ الإنسانِ والحريات العامة تظلُّ مشاركاتٍ ملهمةٍ، علينا أن نقتفي أثرها، ونتَتبعُ فصولها، فهي دون شك بابٌ من أبوابِ العلمِ لما تحويهِ من مذكراتٍ كُتبت بعبارةٍ جزلةٍ، وترتيبٍ مُتقنٍ ؛ مفسراً فيها النصوصَ و مستصحباً أدواتِ اللغةِ؛ في براعةٍ تستعصي على كثيرينَ.

أفاضَ أهلُ العلمِ في مواضعَ كثيرةٍ حين يتحدثونَ عنه محباً للشعرِ مجيداً للكتابةِ هائماً بحب أم درمانَ، يطربُ لأغنيات الحقيبةِ و يشجيه عبد العزيز محمد داؤود صادحاً بزهر الرياض المايد، فيحيلُ مزاجه المعكر صفواً لا تكدره تساؤلاتنا المتكررة أو قل جهلنا بفلسفة الأشياء كما يراها.

حدثته مهاتفاً قبل رحيله المحزن لأقفَ على صحته، فجاءني خبر الرحيل المحزن وأنا بمدينةِ بورتسودان في نزوحي الثاني فكان رحيله كأنه غربةً موجعةً عن الوطن جميعاً وعن جمالِ الأشياء، رحل بعيداً عن السودانِ الذي أحبّه، بعد أن وضعَ بصمته في كلِّ مجالٍ وليس في القانون وحده.

الذي نعاهده عليه أننا على ذاتِ الطريق الذي أحبه، بانفعالنا وتفاعلنا الدائم بقضايا الناس وهمومِ البلاد، وأن نبذلَ جهدَنا ما حيينَا لتطويرِ مقدراتِنا الذاتية في فضاءِ القانون وميادينَه خدمةً للحقوقِ العامة والحريات الأساسية .

و صدقَ المتنبئ القائل:

“كالخيلِ يمنعُنا الشّمُوخُ شِكايةً  

و تئِنُ من خلفِ الضّلوعِ جروحُ

كم دمعةٍ لمْ تدرِ عنَها أعينٌ 

و نزيفها شَهِدتْ عليهِ الروحُ”.

إلى جناتِ الخلدِ الأستاذ العلم كمال الجزولي.

 

(*) محامي وكاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى