منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير ظللت أنادي بأن نستهدي بتجارب الماضي في تاريخنا السياسي حتى لا نكرر ذات الأخطاء وحتى لا نعزز استمرار الدائرة الخبيثة التي أقعدت بالسودان والسودانيين زمنا طويلا رغم وجود الفرص والإمكانيات والميزات التي يمكن أن تجعل شعبنا من أحسن الشعوب حالا وبلادنا من أكثر البلدان منعة وعمرانا واستقرارا، لكن ولأن أحزابنا السياسية إما بافتراضها في الشعب الغباء فتستهين بذاكرته ووعيه أو لمحدودية وعي وقدرات قادة تلك الأحزاب فإنها تظل تكرر ذات الأخطاء .
وبالعودة للوراء نجد أن كل التيارات السياسيةوالساسة يمينا ووسطا ويسارا إرتكبوا جرائم كبرى في حق الوطن وشعبه فمنهم من تنازل عن مبادئه وأصبح وصوليا وقبّل أقدام السادة تزلفا لإستغلال البسطاء من أتباعهم الذين كان يفترض أن يتصدى أولئك الساسة لتقديم مشروع استنارة يخرجهم من حالة التبعية العمياء .
كلهم بين صاعد للسلطة على دبابة العسكر أو مسلّم ومؤيد ومبارك لحكمهم يوما ما ، كلهم جربوا الجلوس على كرسي السلطة الوثير إما فهلوة والتفافا على إرادة الشعب سلماً أو قهراً بالتحالف مع العسكر .
تتحمل هذه الأحزاب وزر ضياع زمن هذه الأمة وإهدار دماء أبنائها وخسران سواعد وعقول كان يمكن أن تستخدم في البناء .
المؤلم حقا أن هؤلاء الساسة رغم وضوح موضع العلة حتى للمواطن العادي إلا أنهم لم يكلفوا أنفسهم جهد النقد الذاتي لتجاربهم تعاليا؛ بل ظلوا يصرون بوعي منهم أو دون وعي على تكرار ذات التجارب الفاشلة والأخطاء القاتلة حتى أوصلونا إلى مرحلة فقد الوطن فيها سيادته وأصبحت وحدته في كف عفريت وإرادة شعبه المسروقة معروضة في أسواق نخاسة (من لا يسوى ) من الدول ،ومصيره مجهول .
واهم من برأ هذا وجرّم ذاك ،وغير منصف من ظن أن صك الوطنية يجب أن يمنح لزيد دون عبيد .
جربت تلك الأحزاب كل الحيل والأساليب الممكنة والمستحيلة ، المقبولة منها والقميئة للحصول على السلطة منفردة ومارست الإقصاء في حق بعضها البعض ،
جرب هؤلاء الساسة كل شيئ ماعدا الجلوس مجتمعين حول طاولة حوار واحدة حاسبوا فيها ضمائرهم وغسلوا عندها غلهم وحقدهم على بعضهم وتجاوزوا مراراتهم الحزبية التي لا شأن لغالب أهل السودان البسطاء بها ، فكروا في كل المكائد ماعدا تقديم التنازلات لأجل الوطن والمواطن!!
بعد الثورة كنا نحلم أن تترفع هذه الأحزاب عن المغانم والمغارم وعن التشاكس والصراعات وعن الأنا دون الآخر ، فضاعت فرصة تاريخية لمرحلة الإنتقال السياسي الراشد والتأسيس للبناء الوطني والحلم الكبير .
نحتاج أن نُُفهم تلك الأحزاب أن الآخر ليس كله على باطل وأن المجرم يجب أن يُجرّم في ذاته لا كل منظومته وأن الفكرة تجابه بالفكرة لا بالإقصاء وأن العنف لا يولّد غير العنف المضاد.
ظنت أحزاب قحت أن بإقصائها للتيار الإسلامي العريض والمشاركين في النظام السابق يمكن أن تستقر لها الأوضاع ، وأن تهمة إسلامي يمكن أن تجعل من الدول الغربية وأمريكا حليفا وعونا على الدوام متناسين أن للسياسة تكتيكاتها المختلفة وخططها البديلة ومواقفها المتغيرة وفقا للواقع والحقائق الماثلة ، فات على ساسة قحت أن في عالم السياسة ليس بعاقل من ظن أن الأشياء هي الأشياء .
ذات الغرب الذي عول عليه أهل قحت هو ذاته الذي صفعهم ليستفيقوا من غيبوبتهم ويأمرهم بالجلوس مع المؤتمر الوطني في القاهرة ، وهو ذاته الذي سيجلسهم مع إخوتهم من بعض مكونات الكتلة الديمقراطية في باريس وجنيف وهيلسينكي .
أما المفاجأة الكبرى فهي الجلوس خلال الأيام القليلة المقبلة مع المؤتمر الوطني علنا ، فهل ياترى تناست قحت مراراتها ؟ وهل تملك خطابا آخرا يناسب ذلك التحول المفاجئ في المواقف ؟ هل سيقولون الحقيقة أم سيصرون على تزييف وتغييب وعي جماهيرهم المعبئة بأحلام لا علاقة لها بالواقع ؟
ماذا فعل الإسلاميون ليغيروا نظرة الغرب تجاههم ؟
علي أية حال الأيام المقبلة حبلى بالأحداث العاصفة التي ستغير المشهد السياسي السوداني كثيرا فلنشد أحزمة الفكر وأشرعة الفهم ولنستعد للقادم علنا نستوعب مايجري على مهل .
(*) كاتب وصحفي