أرسل لي صحافي عربي يحاول الكتابة في القضايا السودانية يسألني بعض الأسئلة بعد أن استعصى عليه فهم المواقف المختلفة من الحرب الحالية وتحديد الاصطفافات السياسية مع هذا الطرف أو ذاك، ثم أسباب الحرب ومَن بدأها… وما هي المآلات المتوقعة. كان حجم الأسئلة كبيراً بحيث تصعب الإجابة عنها في رسائل أو جمل قصيرة، كما أنه حمّلني مسؤولية من يعلم بكل التفاصيل، وهذا ما لا أدعيه، وبعضها يعبّر عن رأي أو موقف أكثر منه حقيقة أو معلومة، وبالتالي يقتضي عليه الوضع أن يتحرى ذلك في كتابات متعددة وليس من كاتب واحد. أرسلت للرجل روابط لمواقع سودانية وكتابات لكتّاب متنوعي المواقف والاتجاهات، وطلبت منه أن يبذل مجهوداً في متابعتها علّها تعطيه مفاتيح لفهم بعض المواقف، وليس بالضرورة كلها.
عاد لي ببعض الأسئلة، بعد أن أمضى وقتاً للقراءة، ولخّصها في سؤال عريض: هل الموقف الرافض للحرب يعبّر بالضرورة عن موقف معادٍ للجيش وداعم لـ«قوات الدعم السريع»… ولماذا؟
طلبت من الرجل العودة للمقالات المتنوعة والبيانات المنشورة بالمواقع السودانية المختلفة، ودراسة بداية ظهور موقف «لا للحرب»؛ لأن من المنطقي ربطه بمجريات الحرب، فإن كان موقفاً مبدئياً فإنه يجب أن ينطلق من البدايات الأولى للحرب وقبل اتضاح مواقف الأطراف المتحاربة على الأرض، ومن تقدم ومن تأخر. وإن لم يظهر هذا الموقف من البداية وإنما برز مرتبطاً ببعض مجريات الحرب فإنه قد يعني انحيازاً للطرف المهزوم أو المتقهقر، وفي هذه الحالة فإن المطالبة بوقف الحرب هي دعوة حق أُريد بها باطل، والمقصود بها حماية الطرف المهزوم.
الحقيقة أن هذا الموقف برز منذ بدايات الحرب، وقبل اتضاح موقف الطرفين في الميدان، وبالتالي من باب الأمانة القول إنه رافض فعلاً للحرب وإنه حذّر من مآلاتها وقال ما معناه أنها حرب لن يكسبها طرف، وسيخسر فيها الجميع كما سيخسر فيها الوطن وأبناؤه. ثم أن إسناد موقف لا للحرب لأطراف داعمة لـ«قوات الدعم السريع»، كما سيقولون، يوحي بأن هذه القوات كانت رافضة للحرب من الأساس، وأنه تم استدراجها من قبل الجيش السوداني، فهل هذه هي حقيقة الموقف، أو هكذا يريد من يوزعون هذا الزعم أن يقولوا.
سؤال من أشعل الحرب ومن كان وراءها يجب ألا يتم استسهال الإجابة عنه بالمزاج الشخصي أو الانطباع العام، بل بتحليل المواقف لمعرفة مَن الطرف المستفيد من الحرب، وما هو نوع المكاسب التي يتوقعها، وماذا حقق بالضبط منذ بداية الحرب حتى الآن. كما يحتاج إلى العودة للحظة ما قبل الحرب لمعرفة موقف كل طرف وحساباته في موازين القوى في تلك اللحظة، وكيف يمكن أن تتبدل بعد الحرب مكسباً أو خسارة. هذا التحليل سيساعد على القراءة الصحيحة والوصول للنتائج الأقرب للصحة.
الواقع يقول إن هناك أطرافاً سياسية وعسكرية كانت وراء قرار الحرب، وإنها دفعت أطرافاً في القوات المسلحة لإطلاق الشرارة الأولى بحسابات خاطئة بانها تستطيع إنهاء الحرب لصالحها في أيام قلائل، كما كان يتم الترويج له. والواقع يقول أيضاً بأن «قوات الدعم السريع» كانت جاهزة للحرب ولديها خطة للسيطرة على المواقع الاستراتيجية، وهذا ما حققته منذ اليوم الأول، وسواء كانت قد بدأت الحرب، أو أن أطرافاً في الجيش هي التي بدأتها، فقد مارست «قوات الدعم السريع» الحرب بشهية مفتوحة ولم تقف عند حدود الدفاع عن النفس، وهذا يعني وجود أطراف مؤثرة في «الدعم السريع» راغبة في استمرار الحرب.
من المهم من الناحية العملية والمنطقية أيضاً قراءة المواقف المتغيرة ووضعها في الحسبان؛ ببساطة لأن ليس كل الناس أصحاب مواقف مغلقة، فالبعض يربط موقفه بظروف وحسابات معينة، وإن تغيرت فإن مواقفه تتغير. فهناك من كانوا من أشد المتحمسين للحرب واستمرارها، ثم اقتنعوا بعد عشرة أشهر بأنها لن تنتهي بانتصار طرف، لكن ربما تنتهي بانهيار وتمزق السودان وتشتته وإبادة مجموعات من سكانه، فتغيرت مواقفهم. في المقابل، هناك من لم يكن متحمساً للحرب، ثم دفعته انتهاكات «الدعم السريع» لاتخاذ موقف رافض لوجودها وداعٍ لإبادتها والقضاء عليها، ومن ثم استمرار الحرب حتى تحقيق هذا الهدف. ومن الممكن تفهم دوافع هذا الموقف، لكن يمكن مجادلته بأن نتائج الحرب على أرض الواقع لا تشي بإمكان تحقيق هذا الأمر، كما أن استمرار الحرب هو الذي يوفر غطاءً لهذه الجرائم والانتهاكات. بالتالي فإن الموقف الغاضب من الانتهاكات والجرائم والساعي لإيقافها يجب أن يبتدئ بوقف الحرب، وتوفير البيئة المناسبة لكشفها، ثم تبني ضرورة المحاسبة عليها.
الموقف الرافض للحرب ينطلق من دوافع أخلاقية وإنسانية في المقام الأول، ومن مواقف سياسية قادرة على قراءة الواقع ومآلاته، وأثبتت الأحداث صحتها، وسواء نجح من يتبنونه في تقديمه للرأي العام بشكل مقنع، أو عجزوا عن ذلك، فإن العيب في عجزهم وليس في الموقف نفسه.
(*) عن صحيفة “الشرق الاوسط”