عندما تحرك الشعب لإنهاء نظام الـ30 يونيو 1989، كانت الآمال عراض لبناء سودان الحرية، السلام، والعدالة؛ وهذا الحلم ظل يراود السودانيين منذ وقت ليس بالقصير، وتوج بتشكيل حركة مدنية ديمقراطية قادت انتفاضة 1924، وتعلم ماذا حدث بعد ذلك بـ 1968، 1985، 2011، 2019، وطوال هذه المدة دعمت أطراف دولية وإقليمية حركات انفصالية وأحياناً فاشستية، وتارة ثيوقراطية، للحيلولة دون نضوج النموذج الديمقراطي.
لا اعتقد أن عملية إسقاط جدار النظام، كان هدف ثورة ديسمبر 2018، وقد تحدثت مراراً مع السيد| فولكر برثيس، حول هذا الإفتراض، الذي أعتقد جازماً بأنه ساذج للغاية، وما يقلق في الآمر أن كثيرا مما نعتقد بأنهم وصلوا لنضج في تقييم الحالة السودانية يظنون ذلك، مما جعل جهودهم تمهد الطريق لعودة صدى النظام البائد مرة أخرى للمشهد السياسي، ومن المحزن أنهم يجاهرون، هنا التساؤل الظرفي المتصل بالافتراض: هل شرعنة الجماعات الانفصالية بالسودان يدعم الاستقرار على المديين المتوسط والبعيد؟.
قد لا تسعف الكلمات المراعية للحركة الديناميكية في السياق الحالي على وصف موقف من نظن أنهم أصدقاء لسودان الحرية، السلام والعدالة، ولكن من لا يستطيع تحديد موقفه لا يستحق الصداقة، و يشاركني كثيرون بهذا الموقف، وخيارات التقارب كثيرة أمامنا، فقط نحتاج لإعادة صياغة الرسائل الإعلامية دون المساس بالأهداف المشروعة، ومن يستخدم أدوات تقليدية لمعرفة التفاعلات والعمليات السياسية قد يقع في فخ عصابات امتهنت تضليل المستشعرات ولو جزئياً.
حركة المجتمع بالسودان كما تعلم، يمكن استنتاج توجهاتها الاقتصادية بسهولة، لكن من المهم معرفة الدوافع الاجتماعية للإنتقال، لأن أباطرة العصابات الإقليمية يسعون لطمس أصواتها ويظهر الأمر أنهم ينجحون، لكن دعني اتوقف هنا حول تصريحات قادة وكلائهم بالداخل، أمين حسن عمر نموذجاً “نحن خسرنا السلطة والرأي العام، وسوف نستعيد بهذه الحرب الثانية”، أليس هذا ما سمعته من شبكات الفساد الإقليمية برغبتها في إعادة تدوير قادة الحركات الإنفصالية وعلى رأسهم ما يسمى بالإسلاميين- الوسطيين، بالعملية السياسية الجديدة، اتفق معك بأنهم غير مؤثرين ولا يمتلكون رصيدا جماهيريا، نعم هم كذلك لكنهم لا يعملون اصلاً وفق برنامج شعبي حتى تؤثر هذه المعضلة على أدائهم الهدام.
دعنى أوضح الآمر: عندما نشأت هذه العصابة لم تكن لها قاعدة اجتماعية اصلاً، بل تسللت لمؤسسات الحكم وجيرتها لصالح تمكين عضويتها النشاز، وحضرت لإنقلاب فشلت مرة وأخرى لكنها تداركت الأمر وسيطرت على مؤسسات ومنابر الإعلام، وأوجعت السودانيين بإنقلاب إستمر لـ30 عاما ، ثم ماذا تفعل الآن، تبحث فقط عن موطئ قدم شرعي بالسلطة حتى ولو كان رمزياً، وتنتشر مثل السرطان مرة أخرى لتعيد تجربة الإنقلاب مرة ثانية.
سنوات من العبث بمؤسسات الحكم جعل معظم السودانيين لا يثقون بالطبقة الحاكمة حتى ولو كونت منهم “راجع تجربة الانتقال الاخيرة”، وهذه الحالة نتجت بدعم من الحركات الانفصالية التي توالت على حكم السودان، وهى الآن تمارس المهادنة مع طرفي الصراع بصورة شبه تامة لاستمرار الحرب وتقويض أي جهود لوقفها، وهنا لا تستغرب حالة التحالف غير المعلن بين أقصى اليمين واليسار في هذه المأساة، أنهم متضررون من مساواتهم بالآخرين.
من الإجحاف أن يرى الديمقراطيون، ما سواهم بمعاييرهم الأخلاقية، مما يجعل افتراض إدماج جزئي لـ عصابة ثيوقراطية فاشستية بعملية الإنتقال، مجرد “مكون” يمكن تخطي العراقيل التي يضعها أمام عملية تستهدف تفكيكه، لذلك إن ارادت واشنطن الشراكة مع سودان الحرية، السلام والعدالة، فيجب أن لا تسمع صدى رؤها بالسودان فقط، بل عليها العمل بجدية لاستخلاص الدروس والتواصل الجاد مع الأصوات الحقيقية التي لديها قدرة على التأثير ، وهنا أذكرك بما تؤمن به، بأننا نريد شراكة وليس دروساً .
أكرر أن أرادت واشنطن الشراكة فعليها إعلان جدولها، والخروج من حالة المماطلة التي تخدم محاور إقليمية ليس لديها مصلحة في التقارب المباشر مع الخرطوم المستقرة والمزدهرة، وقد يقود الارتباك في قراءة البوصلة للإصطدام بمتغيرات جديدة يصعب التنبؤ بمآلاتها، وعليها أن تفهم جيداً لماذا يريد السودانيون لهذه الصداقة أن تنمو ، حينها سوف تكون الرؤية متفقة مع المأمول للطرفين.
(*) باحث بمعهد السياسات العامة