شاءت الأقدار أن أتمكن من دخول القاعة رقم ٩ في معهد العالم العربي لأكون شهودا علي افتتاحية الفعالية الجانبية لمؤتمر باريس التي خصصت لبعض السودانيين حيث كان الجميع مستسلمين كالذي تم تخديره تمهيدا لإجراء عملية جراحية وبدا واضحا ومن خلال قراءتي للغة الجسد أن رئيس الجلسة (الخواجة ) واثقا من قدرته في السيطرة علي مجريات الجلسة وتمرير أمر ما .
عرّف الضيوف بأسمائهم وكانوا كلهم مرتبكين خاصة عندما بدأت في التصوير لدرجة أن أحدهم كان يضع يده حائلا بين كاميرا هاتفي ووجهه وخالد سلك عرّف نفسه بأنه (نائب عمر ده ) أما وليد مادبو فقدّم نفسه خبيرا للحوكمة مع أن القاصي والداني يعلم أن حضور وليد مادبو كان من بوابة الجنجويد (طبعا كانت لوليد جلسة خاصة مع جنجنويد فرنسا عقب المؤتمر ) في باحة فندق Canopy .
كان كل شئ يمضي كما تريد المنصة ولكن إنبري سلطان دار مساليت السلطان سعد بحر الدين وقال كلمته القوية التي قلبت الطاولة على الجميع وكأن السلطان على موعد مع التاريخ ليسجل اسمه بأحرف من نور .
تم طردي بعد نصف ساعة تقريبا أو أقل بإيعاز من أحد قيادات تقدم الذي له سابق معرفة بشخصي الضعيف بحجة أنني لست ضمن قائمة المدعوين فطلبت من الأمن أن يخرج الإعلاميين الآخرين الأجانب ولكنه لم يفعل فخرجت ولكنني لم أتحسر على خروجي لأنني إطمأننت حينها أن هذا المحفل لن يؤتي السودان من قبل منظميه وحاضريه طالما فيهم ( السلطان سعد ) وآخرون ممن ظن أهل المؤتمر أنهم يمكن أن يستمالوا بالوعود الجوفاء ويباعوا وتعرض ذممهم في مثل هذا البازار الكاسد.
ماروج له بأنه ندوة للمجتمع المدني السوداني في معهد العالم العربي لم يكن ندوة بل كان لقاء سياسيا ضمن أجندة مؤتمر باريس دعوا له من يريدون من السياسيين وغيبوا من لا يريدون لذلك فإن أي فرضية تدعيها تقدم أن مؤتمر باريس فقط مؤتمر للشأن الإنساني فهي فرية للأسباب التالية :
أولا: حضور منسوبي تقدم وآخرين أتوا بهم في محاولة لإستمالتهم وشق صف مناصري معركة الكرامة وهؤلاء سياسيون معروفون وليسوا رؤساء منظمات إنسانية .
ثانيا: لقاء حمدوك ومن أتى بهم مع الرئيس ماكرون وهو لقاء ذي طابع سياسي وفيه محاولة لإعادة تدوير قحت وتسويقها للعالم و للشعب السوداني الذي لفظها .
ثالثا : تصريح السيد ماكرون بأنه لم يدعو الحكومة السودانية لأنها انقلبت على المدنيين في أكتوبر ٢٠٢١م (يقصد حمدوك ومن معه ) ونسيى السيد ماكرون أن المدنيين الذين يقصدهم لم تأت بهم الجماهير عبر صناديق الانتخابات وأن حمدوك نفسه عاد رئيسا للوزراء بعد قرارات أكتوبر تلك ثم قدم استقالته طائعا مختارا واذا كانت هنالك شرعية لحمدوك فهو منحها للحكومة الحالية بعودته بعد قرارات أكتوبر وتنازل عنها لهم بإرادته، لذلك فإن التصريحات و اللقاءات التي قام بها ماكرون مع مجموعة تقدم وتم بثها بكثافة عبر وسائل الإعلام هي مجرد التسويق لشرعية من لا شرعية له في مهرجان سياسي فاشل سمي عبثا أنه مؤتمر إنساني .
رابعا: كنت حضورا في ندوة تمهيدية لمؤتمر باريس عقدت في يوم ١٢ ابريل تحدث فيها السيد William Carter وهو المدير القطري للسودان بمنظمة NRC النرويجية وعندما سألته عن كيفية إيصال المساعدات للمحتاجين في السودان قال إنهم ينسقون مع الحكومة التشادية والدعم السريع في دارفور ولام حكومة السودان قائلا إنها تضع بعض العراقيل ونسى أن العالم كله يفضح حديثه ويعلم من الذي يضع العراقيل ويهاجم قوافل المعونة ومقرات البعثات الأممية ونسى قوله أنه قادم للتو من السودان دون أن يعترض سبيله أحد من الحكومة التي إدعي أنها تضع العراقيل .
فبالتالي هو لعب على الذقون ودعم للجنجويد وجناحهم السياسي (تقدم) عبر بوابة العون الإنساني .
أغرب ماجاء من ردود أفعال حول مؤتمر باريس هو بيان تقدم الذي خرجت به بعد يوم من المؤتمر وسوقت فيه لأكبر أكذبوبة في المؤتمر .
ذكرت تقدم في بيانها أن المؤتمر انتهى بجمع نحو ملياري يورو مع العلم أنه لم يجمع ولا يورو واحد بل كانت مجرد تعهدات لم يناقش المؤتمرون كيفية وشروط جمعها وكيفية توزيعها للمحتاجين وعبر أي آلية ومتى سيكون ذلك !!!
وأنا هنا فقط أترك للقارئ الحصيف بعد الرجوع بالذاكرة للوراء قليلا كم مرة إلتزمت وتعهدت تلك الدول ولم توفي بأي إلتزام ، و أن يركز كيف حولت قحت أو تقدم في بيانها كلمة (تعهد) إلى (جمع) !
إنه التسويق للغش والخداع السياسي في سوق نخاسة كاسد لأن البائعين فيه كاذبون والسلعة مغشوشة .
مافعله شباب باريس الذين هتفوا ضد القحاتة أمام معهد العالم العربي لم يكن أمرا عاديا بل فيه عدة رسائل مهمة جدا فيها :
*رسالة للدول التي حضرت المؤتمر وللإتحاد الأوروبي مفادها أن أي محاولة للإلتفاف على إرادة الشعب السوداني فإنها مفضوحة وفاشلة ومرفوضة.
*رسالة أخرى للبلد الراعية ورئيسها محتواها أن من تحاولون شرعنتهم هم قلة لا يمثلون إلا أنفسهم وملفوظون من بني جلدتهم داخل وخارج السودان وهم سلعة منتهية الصلاحية غير قابلة للاستهلاك مرة أخرى .
*رسالة ثالثة أكثر أهمية تمثلت في الاحتفاء بالسلطان سعد الدين والهتاف له (سلطانا فوق ) وهي أن من يقدر مكانة بلده ويحفظ كرامة وعزة شعبه في وقت بيعت فيه الذمم بأرخص الأثمان في أسواق النخاسة المنتشرة حول العالم يستحق التبجيل والإحترام .
أما الرسالة الأخيرة فهي لأهل قحت لو أنهم يعقلون أو فيهم بقيّة من إحساس
نصها ( أن الشعب وعيه متقدم جدا وأن الفهلوة ومحاولات سرقة إرادته وصوته لن تجدي مرة أخرى وأن كرسي السلطة ليس عبر تاتشر الجنجويد ولا على أكتاف الأجانب ومن يدفعون تكاليف السفر والإقامة في أرقى الفنادق والمنتجعات في باريس وجنيف وهلسنكي ولا على حساب جماجم وأجساد وشرف الضحايا من شعب السودان .
(*) كاتب وصحفي