بوفاة المناضل محمد عمر (الكبتن) يفتقد الحزب الشيوعي السوداني كنزا من التجارب و المعارف ومرجعا هاما في تاريخ الحزب بوصفه احد المؤسسين الحقيقيين له، فهو من اوائل الشباب الذين انضموا للحزب الشيوعي واسهموا في بقاءه وتطوره وظل كذلك منذ الأربعينات حتى وفاته.
في بداية تكوين الحلقات الأولى كان الفقيد يردف عبدالخالق محجوب الأمين العام للحزب الشيوعي في دراجته ليوصله للاجتماعات التي كانت تعقد في مدينة الخرطوم بحري، وبعد أن تنتهي اجتماعاته يوصله بذات الدراجة الي المشرع ليأخذ (البنطون) عائدا الي امدرمان.
الكبتن و المناضل الفذ عباس علي هما ضمن المجموعة الأساسية التي قامت بتأسيس الطباعة في الحزب.
في بداية تأسيس مدينة الخرطوم كان الكابتن يعمل في المالية في عهد الاستعمار البريطاني، ذهب هو وبعض الشبان العاملين معه إلى مكان المزاد العلني لشراء قطع اراضي لهم، وكان مفتش المركز هو الذي يشرف على البيع، كان وقتها المتر المربع بخمسة قروش، لم يكن الكبتن والشباب الذين معه يملكون قيمة الأرض، فرأوا عدد من أعيان البلد يقفون الي جانب حميرهم الفارهة المرصعة سروجها بمختلف الوان الاقمشة والجلود فتوسموا فيهم الخير وذهبوا اليهم طالبين مساعدتهم لتكملة المبلغ المطلوب وتم لهم ذلك بكل اريحية. كان نصيب محمد عمر قطعة أرض فارهة فيما يسمى الآن الخرطوم ٢،عندما سمع احد قيادات الحزب في ذلك الوقت وهو أحمد محمد خير عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بخبر شراء محمد عمر لتلك الأرض في ذلك المكان الذي اشتري معظم الاعيان مساحات شاسعة فيه، قال لمحمد عمر :”انت أصبحت بورجوازي، ليه ماتنتظر انتصارنا وانتصار الاشتراكية وتمنح قطعة أرض مجاني أو منزل جاهز مجاني؟!!” فضحك المناضل الفذ الجزولي سعيد الذي كان يستمع معي لكل ماسبق ذكره، وكنا آنذاك في ضيافة الكبتن تقية من مطاردة اجهزة ألأمن وسأل الحزولي الكابتن ساخرا” ماقال ليك الثورة الاشتراكية حتقوم متين وحيدوك قصر وين؟ ” احمد محمد خير هذا انقسم من الحزب في الستينات هو يوسف عبدالمجيد واحمد شامي وكانا أعضاء في اللجنة المركزية ومتفرغان للعمل السياسي،انقسموا من الحزب وكونوا مايسمى بالحزب الشيوعي القيادة الثورية رافضين النضال الجماهيري، ومنادين بالثورة المسلحة التي تنطلق من جبال النوبة وتزحف عبر المدن والصحاري والبوادي لتحتل العاصمة الخرطوم وتستلم السلطة على طريقة الزحف الطويل الصيني Long march الذي قاده ماوتسي تونغ من بنان الي بكين.
غير انهم لم يزحفوا الا في خيالهم المفارق للواقع ولم يغادروا العاصمة وقام بعضهم بأعمال تجارية تاركين العمل السياسي كلية أمر مؤسف ان ينحرف أمثال هؤلاء من المناضلين لم يدرسوا الواقع في بلادهم. لدهشتنا ودهشة العديد من الزملاء واعتقد لدهشة اعداد غفيرة من معارفه أيضا كشف الكبتن عن ان دار الحزب الشيوعي السوداني الحالية في الخرطوم ٢ هي ذات الأرض التي اشتراها في زمن الانجليز.
تعرفت على الكبتن لاول مرة في معتقل سجن كوبر في زنازين البحريات كان وقتها يعمل في حسابات محلية شندي وقد اعتقل هو وبعض الزملاء اذكر منهم عثمان بادي وإبراهيم حاج عمر وهاشم سعيد ولا اذكر بقية الاسماء وبعض قيادات الحزب الوطني الاتحادي كان ذلك في عهد ابراهيم عبود وكنا (شخصي) وإبراهيم حاج عمر حديثي التخرج والالتحاق بالحزب وكنا نلتقي بالشهيد عبدالخالق محجوب وكان معتقلا ومعه عدد من الزملاء فيما يعرف بال (الكرنتينة الف) المجاورة للبحريات.
وفي أحد المرات خرجت للمستشفي وكان بصحبتي الكبتن فقابلنا الشهيد عبدالخالق الذي قالدنا وسلم علينا سلاما بحرارة دافقة وقال للكابتن اوصيك شديد بالشباب ديل، فرد عليه الكبتن”ياخي وصيهم هم علينا ديل شداد”
كان الكبتن مثالا للصبر والصمود والحكمة و بعث فينا الثبات والصمود.
كان شعارنا السائد في كل المعتقلات (اعمل لبقاءك في المعتقل كانك تعتقل ابدا واعمل لاطلاق سراحك كانك تخرج غدا) ولهذا كان الاهتمام بداخل المعتقل علي ضيق حوشه وكآبة زنازينه لتطويعه لارادتنا عبر المحاضرات والتعليم والترفيه الي جانب زراعة الحوش بالورود والزهور وغيرها. فكان كل زميل يخرج خارج السجن للمستشفى او للتحقيق او للمحكمة او غيرها من الاسباب ملزم باحضار ورد او شتول وكان الكبتن مهتما جدا بذلك ومشرفا على تنفيذه مع قيادة الزنازين(البحريات) .
كان أحد المعتقلين يبدي استياءا شديدا من هذا الاهتمام بالزينة وزرع الشتول وكان يردد(انتو مقعدننا لمتين تزرعوا وتزينوا في الزنازين).
في احد المرات احضر زميلان شتول مانجو…. نعم مانجو، فما أن رآها زميلنا المعتقل قفز من مكانه وحاول اقتلاع الشتول من الزملاء وهو يصيح “عرفنا الزهور كمان جابت ليها زراعة منقة، على الحرام مابتتزرع” الا ان الكبتن قاده بعيدا بهدؤ موضحا (دي مالينا دي للناس الجايين بعد سنوات طويلة.. انت لما يجيك إفراج الزرعناه دا ما بمنعك من الإفراج..قبل يومين تم الإفراج عن زميلين هل منعت الزراعة من الإفراج عنهم بعدين ياخي افضل من الصباح كل يوم في فترة اعتقالنا نشوف الورد والشتول ولا نشوف الحجار والفسحة الجرداء)
المهم امام هدؤ وموضوعية الكبتن تراجع الراجل وسمح بزراعة شتول المانجو.
آخر من خرجوا من المعتقل ذكروا ان شجرة المانجو انتجت كميات مقدرة حلوة المذاق.
بعد وفاة الجزولي سعيد الذي كان السكرتير المالي للحزب تسلم محمد عمر الذي كان عضوا في مكتب المالية المركزي مسئولية العمل المالي للحزب ، واسهم في تطوير المناهج المالية المختلفة للحزب سيرا على أثر الجزولي سعيد، كان صادقا وامينا وحريصا كل الحرص على اموال الحزب وممتلكاته، مهتما بتوفير المال لصدور جريدة الميدان وانشطته المختلفة من ليالي سياسية ومؤتمرات صحفية وسفر المكلفين بالذهاب لمناطق الحزب خارج العاصمة، بل وخارج السودان، وكان أكثر حرصا على حياة المتفرغين من الزملاء والزميلات وعلى أسر المعتقلين والمتوفين من الشيوعيين الذين كانوا يعتمدون على الحزب في اعاشتهم وكان حريص كل الحرص ان تسود البهجة والفرح لاطفال كل الأسر وتقديم المعونات المقررة قبل وقت كاف من حلول الأعياد المختلفة، وكان كل ذلك لايثنيه عن العمل بين الجماهير، كان مسئولا عن العمل التعاوني في الحي مطورا له وجاعلا منه أداة لتخفيف الضيق عن الفقراء وكل الكادحين من اهل الحي ونال تقديرا عاليا من الجميع.
كذلك كان مشرفا على تقسيم اراضي الشعبية كمسئول اللجنة التي تم اختيارها رسميا ونال ثقة الجميع. ولم يمنح نفسه أرضا وظل يسكن هو وأسرته في منزل بالايجار في احد أحياء الشعبية بحري غرب سوقها. عاش الكبتن حياة بسيطة قنوعة وكما يموت بسطاء الناس مات.
العزاء لكل أسرته الباسلة الكريمة الشجاعة والمضيافة التي أوت اعدادا كبيرة من الشيوعيين المطلوبين من اجهزة الأمن وكنت أحدهم، كانت تفعل ذلك بكل الجسارة والشجاعة التي تجعلك تحس انك في أيدي أمينة.
والعزاء موصول لكل أعضاء الحزب الشيوعي والديمقراطيين وكل الوطنيين من عارفي الكبتن.
نعاهدك ياكبتن اننا سنظل سائرون على ذلك النهج والدرب حتى النصر.