مقالات

يسمّونه الشعب

المعتصم الحاج أحمد عثمان

في 13 مارس 2025. أكملتُ خمسةٌ وستون عاماً مما تعدّون. وأكملت الحرب، التي نعيش، جميعنا، ويلاتها ثلاثةٌ وعشرون شهراً وثلاثة عشر يوماً. هذه الحرب التي أُشعلت شرارتها في تاريخ 15 أبريل 2023، حُشِد وخُطط لها منذ عهدٍ بعيد. والشواهد علي ذلك كثيرة، تنبأ بها الكثيرون إلا الغافلين أو المتفائلين. ويُقال إن الانسان، بعد دراسة الشواهد والأحداث ومقدماتها، يمكنه، علمياً، أن يتنبأ ببعض الأشياء. وأتمني أن يتطور علم التنبؤ وقراءة كف المستقبل، بشكل علمي، حتى نتجنب كثير من الكوارث والآلام.

من ثوالث الأثافي أن تتذكّر تاريخ قدومك إلي هذه الحياة في ظل حرب فاقت كل تصور، وأخرج الانسان فيها أسوأ ما فيه، شهوة القتل. 

تحتشد الذاكرة بملايين الصور عن ويلات ومآسي الحرب وتتدافع للخروج إلي فسيح ورحابة العالم. سوف انتخب القليل منها بما يناسب المقام. 

أترحّم علي الشهداء وأتمني عودة المفقودين والنازحين واللاجئين إلى بيوتهم ومراتعهم وحياتهم الطبيعية. وأتمني شفاء الجرحى ومن فقدوا أطرافهم. وأتمني برء النفوس مما لحقها من خراب ومن آلام. وأدين الدمار والخراب لكل ما عمّره الناس وادّخروه، والعوز الذي حُشر فيه الجميع حشراً. وأترحّم علي روح معلمي كمال الجزولي، الذي لم يتوقّع أن يُقبر خارج وطنه الذي أحب، وكثيرون مثله. وأتمني تمام العافية وعاجل الشفاء لرفيق الدرب المنصور جعفر، هكذا يحب أن يُنادي باسمه الذي أراد، وهو عند زملاء الدرس ورفاق الدرب ذو النون جعفر محمد علي بخيت، الذي لم يستسلم للمرض وظل شاهراً قلمه بحثاً وتنقيباً في عصي الأمور وقواسيها، خاصةً حالة السودان مشعلاً سراج التنوير من دون كلل. 

كان من المفترض أن أراجع مركز طب وجراحة العيون بعاصمة الجمهوريات السوفيتية السابقة (موسكو) خلال يونيو- يوليو 2024. لكن نُهب ما ادّخرته لرحلة الاستشفاء مع مدخرات أخري، ومدخرات آخرين، وعربات من مقر الليموزين بشارع عبيد ختم، مثلي مثل كثيرون غيري. وأغلقت الكباري والشوارع بحيث لا يمكنك أن تذهب إلي أمدرمان إلا عن طريق جبل أولياء، وإلي ربك عن طريق قريب من أم روابة، وعطبرة عن طريق  أبو دليق. ثلاثة أو ستة أيام في رحلة كانت تستغرق أربع ساعات، ومصاريف طريق عشرة أضعاف المعتاد وأتاوات يتقاسمها في الشارع كثيرون. لا مستشفيات ولا صيدليات ولا قطرات عيون ولا مصاريف. 

ظللتُ أراقب انطفاء بصري رويداً رويداً. صحيح التدهور “يتقدم” ببطئ شديد، بدليل إني اقرأ وأكتب حتى الان مع انقطاع الكهرباء منذ يوم 7 فبراير 2024. طفقت أعدّ نفسي بدأب للتعامل مع احتمال انطفاء بصري، حين أصير كفيفاً، أو شبه كفيف. وطفقت أحفظ الخطوات من نقطة “ارتكاز” سريري، بوصفه النقطة المركزية، إلي النقاط الأخرى. أعدّ الخطوات، وأعدّ مربعات السراميك وتفاصيل المكتبة، وأتحوّل إلي “أذن” ترهف السمع، وتفسّر الأصوات، ودرجة الشر أو الاستعداد للعون، في صوت المتحدث. أهتمّ بعدم السماح بتساقط الطعام علي ملابسي، خاصة في حضور آخرين. أقرأ بقدر الإمكان مستثمراً بقية إبصاري. يؤلمني أن هناك الكثير جداً من الكتب التي يجب ان أقرأها في هذا العالم. 

كل هذا ضمن التجريب والتأهب، فالعمى لم ينزل بعد. 

ثمة سؤال يلح عليّ، هل العيش في الظلام يساعد علي تفتح البصيرة، ويقوي الذاكرة، ويصقل السمع؟

في 16 يوليو 2023 زارنا في الواحدة صباحاً أربعة أفراد مدججين بالسلاح والكدمول. طرقوا باب الشقة بعد أن تسوّروا السور: افتح الباب، معك أفراد من الاستخبارات. الخوف يدبّ في أوصالنا، أنا وزوجتي وبنتي، ويدبّ في أوصال الشقة، ولا يصل إلى  مسام الروح حيث الانهيار. لم نزل متماسكين. امتثلنا، وليس لنا غير ذلك. بعد ساعة أو نحوها من الأسئلة والتفتيش الدقيق، والاطلاع على الأوراق الثبوتية، وروشتات الدواء وأنواعه، وتفحّص محتويات الثلاجة من بقايا طعام، والاستفسار عن مكان الميلاد وليه ما سافرت و.. و… اتصلوا بشخص قالوا إنه القائد ود ابوك.

كنا جميعاً جلوساً بالصالة وقد ذهب الخوف قليلاً وفتحوا الاسبيكر كي نسمع الحوار. تمام سعادتك لم نجد شيء والبطاقة تقول إن عمنا هذا مهنته محام وزوجته معلمة وبنتهم لديها كمبيوتر ملئ بمواد دراسة وألعاب وأفلام كرتون. سمعناه يقول لهم سلموهم بطاقاتهم واعتذروا لهم وقولوا لهم هذا إجراء روتيني ولا تعودوا إليهم ثانيةً. وقد كان. لم يعودوا إلينا حتي الآن. أضافوا أننا علي استعداد لتوفير هذه الأدوية، ووصفوا بيت القائد لكني لم اذهب له.

آوي ثلاثتنا كلُ إلي فراشه محدقاً في الظلام بعد أن أطفأنا النور. أصبحنا نتحاشى النور ليلاً لأنه يدل علي الحياة! 

بعد نصف ساعة سمعتُ دبيب أرجل ابنتي، تماهي، وهي طالبة في السنة الخامسة بجامعة السودان. تناومت لأري ماذا تفعل من دون مقاطعتها. عمدت البنت إلي مدية كبيرة (ساطور) كنا نستعين بها في تقطيع اللحوم الحمراء أو البيضاء في زمن غير هذا، واحتجنا لهذه المدية لحمايتنا او هكذا توهمنا. أخذت هذه المدية استعدادا لحمايتنا واستخدامها في اللحظات الحاسمة حسب رؤيتها، لحظة الاختيار بين الحياة والموت. 

فاضت دموعي حتي نضب دمع عيني. قلت لها في سري سوف تجديني أمامك بنيتي متمثلاً قول شاعر الدوبيت “أكان ما أخت الشكرة وأزيل غبينك، التّنقطع الشراكة الباقية بينا وبينك…”. 

صحوتُ بعد نوم متقطّع تتخلله كثير من الهواجس والظنون. جاءت بنتي وأبلغتني بحزم بقرارها الساطع: “أبوي نحن ما ح نطلع من بيتنا ده وأصلاً الزول بيموت في بيتو وما في جريمة اسمها  الزول ده قاعد في بيتو”. وقد كان. لم نخرج من بيتنا حتي الآن رغم التردد. نعم هناك أسباب أخرى لبقائنا منها: أولاً لم نكن وحدنا بالجريف. فهناك كثيرون، وكذلك في شرق النيل. تتفاوت أسباب بقائهم. ثانياً تكلفة الخروج والإيجار حيثما ذهبت عالية، وكذلك معينات الحياة التي تتركها وراءك. فالذهاب قفزة إلى المجهول. ثالثاً، الكثيرون تقدّمت بهم السن وبداية حياة جديدة شبه مستحيل. رابعاً نعيش علي مساعدات الآخرين فوجب اختصار تكاليف الترحيل والايجار بقدر الإمكان، نظرية المنفعة. 

بقينا حسب المقولة راجين الله في الكريبة.

يوم 6 فبراير 2025 غادر حلتنا ومنزل أسرتي الكبيرة في حي الحديبة بمدينة الدامر الكبرى، ولاية نهر النيل نفرٌ عِزاز وكرام جاءوا إلينا من قرية ود نايل بريفي أم القري بولاية شرق الجزيرة. أمهاتنا وعماتنا وخالاتنا وأخواتنا وأعمامنا وإخواننا وأولادنا وبناتنا، عادوا إلى قريتهم ومضاربهم وبلداتهم ونجّاضاتهم وكواجريهم ووديانهم وحياتهم. احتموا بنا من غوائل الحرب، ونحن جزءُ منهم وهم جزءٌ منّا لحم ودم. احتمينا بهم من تصحر الحياة وجدبها، وأعادوا لنا أشياء منسية، من زمن قديم: حب وإيثار وتضامن صادق. أشعلوا وجداننا (الوجدان السليم المعافي) ووجدان كل القرية والقري المجاورة. أكثر من مائة وتسعين شخصاً جاءوا  إلى ديارهم فاستقبلتهم وكأن أجدانا/أجدادهم لم يبارحوها في عشرينيات القرن الماضي. قضوا بين ظهرانينا قرابة الشهرين (وهذا ليس كرمٌ منا، لكن حفظ حقوق من فرحوا وهلّلوا وأولموا لاستقبال الضيوف وهم أصحاب حق وليسوا بضيوف. فتح أهلي قلوبهم أولاً وفاضت مشاعرهم دموعاً غزيرة الصبيب، ورددوا سراً وجهراً “أوقفوا الحرب، إنها نتنة”. ثم فتحوا بيوتهم وشوارعهم ودوواينهم وحيشانهم وبيوت الأدب. لم يبخل الجميع بالصيوان والديوان، وأحضروا قمحاً وحطباً وبامية وخُدرة وعدس وفاصوليا ولبناً ولحماً وثوماً وبصلاً للضيوف. إخواننا من ود نايل بالسعودية لم يحوّجوا الناس لشيء. تأكّدنا وزاد يقيننا أننا بخير، وأن ما نمرّ به عارض. معدننا أصيل ومسقي كما الفولاذ أنه “لن يأتينا الباطل من بين يدينا ولا من خلفنا”. شكراً لكم جميعاً. 

وسوف أعود لهذه الملحمة وأكتبها بالتفصيل ذاكراً أسماء جميع من ساهموا فيها، صغيرهم وكبيرهم. وهذا حقهم للتاريخ ان كان في العمر متسع. شكراً لمن ساهم، ومن سلّم، ومن صبّح، ومن مسّى، ومن تقهّى، ومن تونّس، ومن نصب خيمةً، ومن صبّ لبناً، وأحضر سكراً، وبنّاً وتمراً وشاياً. شكراً لعماتنا وخالاتنا وإخواتنا وهن يتخاتتن لتوفير مساهمتهن لقهوة ناس الصعيد لأن نساء الصعيد ورجاله يحبون القهوة. وتتراوح أعمار المساهمات بين عمر سبعين عاماً وخمس سنوات. شكراً جميلاً لعمّاتنا وخالاتنا وإخواتنا وبناتنا والتزامهن الصارم بوردية العواسة والفرك وشاي الصباح والزلابية وشاي الفطور والقهوة طيلة هذه المدة من دون منٍّ ولا أذى، وبدون أي تذمّر إنما خدمة بحب وفرح. لقد هتفنا ملئ قلوبنا “لو ما جينا من زي ديل وااااا..اسافاي” (سيد احمد الحردلو). 

رأينا وفقاً لمجريات الحرب أن من يعتمد السلاح وسيلة فاعلة ووحيدة لإمالة الأمور، وإن كانت بسيطة، ناحية ما يرى، ناهيك عن اعتقاده أن السلاح يحسم الأمور لصالحه أو يحسّن موقفه التفاوضي يتحسس سلاحه تلقائياً عندما يستثار أو يستفز حتي وإن شُبّه له. ولو كان المتحدث معه لم يتجاوز السابعة أو الخامسة من عمره ويتعتع في الكلام. فحمل السلاح يجلب له الاطمئنان المفقود، اطمئنان زائف. 

شكراً جميلاً للأهل والأصدقاء والزميلات والزملاء والرفاق الذين جعلوا بقاءنا علي قيد الحياة ممكناً بما زودونا به من طاقة. لقد تراجعت ذكري الميلاد لضآلتها أمام الأحداث. قال الشاعر الضخم، وأظنه الفيتوري “والغافل من ظن أن الأشياء هي الأشياء”. وقال الشاعر المجيد أمل دنقل في قصيدته الباذخة مقابلة خاصة مع ابن نوح: 

جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ،
والماءُ يعلو 

(…)

ونأوي الى جبلٍِ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب!)
نأبي الفرارَ..
ونأبي النُزوحْ!
كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ
يرقدُ الآن فوقَ بقايا المدينة
وردةً من عَطنْ
هادئاً..
بعد أن قالَ “لا” للسفينهْ
.. وأحب الوطن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى