يمر المشهد السوداني بحال من الانسداد والتعقيد حيث لا تزال الحلول المؤدية لإيقاف الحرب تراوح مكانها، وبخاصة بعد تعثر المبادرات الإقليمية والدولية كافة، وتزايد التوترات والجمود والعجز السياسي الداخلي في طرح حلول وطنية للأزمة.
وعلى رغم طول أمد الصراع المسلح والموت والتشريد ودمار البنية التحتية، وكذلك تكميم الأفواه من قبل الطرفين المتقاتلين، نشط المجتمع المدني السوداني في القيام بأدوار كبيرة وجهود حثيثة من أجل وقف إطلاق النار وإحلال السلام في البلاد عبر توجيه ولفت اهتمام المجتمعين الدولي والإقليمي، للضغط والتدخل والعمل على إيجاد مخرج ينقذ البلاد من هذا الانزلاق الخطر، فضلاً عن نشر الوعي والتثقيف بأهمية السلام ووقف العنف عبر حملات التثقيف والأعمال الفنية، إضافة إلى إطلاق مبادرات شعبية لدعم المتضررين ودرء الجوع والمرض ورصد الانتهاكات وتوثيقها.
حماية النساء
اعتبرت الأمينة العامة لمبادرة “لا لقهر النساء” في السودان تهاني عباس أن “المجتمع المدني وتحديداً المجموعات النسوية في السودان كانت قدوة وقامت بأدوار كبيرة منذ اندلاع الحرب، إذ بدأت النساء بتنظيم أنفسهن في مجموعات عمل من أجل المناصرة وتقديم خدمات الدعم الإنساني، وكذلك توثيق الانتهاكات ومساعدة الضحايا والناجيات”.
وأضافت أن “النساء بمختلف تنظيماتهن تنادين بوضع أجندة محددة ومشتركة لوقف الحرب من خلال المشاركة في مؤتمرات عدة، إضافة إلى عقد ورش العمل لبحث المشكلات التي تخص النساء في ظل ظروف الصراع المسلح”.
وأوضحت عباس أن “نحو 70 تنظيماً نسوياً سودانياً تحرك للمطالبة بإشراكهن في الحراك الذي يهدف إلى وقف الحرب وتحقيق السلام، إذ تدير هذه التنظيمات ناشطات من عواصم اللجوء خصوصاً في دول الجوار مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا ومصر، وشهدت العاصمة كمبالا مؤتمراً في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 شاركت فيه نحو 50 امرأة ناقشن قضايا النساء وهمومهن وكيفية معالجتها خلال ثلاث مراحل، وورد أن الخطة تشمل “على المدى القصير حماية النساء من العنف الجنسي أثناء النزاع وفتح ممرات آمنة لحمايتهن، وكذلك توفير مياه نظيفة وأدوية منقذة للحياة والعمل على حماية المتطوعات”.
وتابعت أنه “على المدى المتوسط تطالب الخطة بإسهام النساء في التوثيق وجمع المعلومات عن انتهاكات حقوق الإنسان وبخاصة تلك المتعلقة بالعنف الجنسي، أما على المدى الطويل فإنها تدعو إلى تخصيص 25 في المئة من موارد العون الإنساني لمشاريع إنتاجية للنساء داخل مناطق النزاع ومعسكرات الإيواء، و50 في المئة من موارد مؤسسات الدولة للتمويل الأصغر للنساء، و25 في المئة من الأموال والأصول المستردة من تفكيك المؤسسات المالية والفساد لمصلحة النساء”.
وأشارت الأمينة العامة لمبادرة “لا لقهر النساء” إلى أن “المؤتمر ركز على ضرورة إشراك المرأة في توزيع المساعدات بالتنسيق مع الجهات المعنية ومشاركتها في محادثات السلام واعتماد رؤيتها ضمن المبادرات المقدمة، كما طالب بأن يكون للمرأة دور فاعل في مواقع صنع القرار داخل مؤسسات وهياكل الحكم المختلفة”.
ولفتت إلى أنه “وعلى رغم تكميم أفواه الناشطين من قبل الطرفين المتقاتلين وتعرضهم للاعتقال، وكذلك الأخطار المحيطة بعمل المتطوعين داخل السودان، إلا أن آلافاً منهم يعملون بكل جهد من أجل توفير الآليات للتصدي للتحديات التي تواجه جهودهم”.
أعمال إبداعية
وفي السياق ذاته وصف الشاعر السوداني عالم عباس الحرب بالـ “العبثية” والسريالية التي لا معنى لها”، لافتاً إلى أن “المبدعين ظلوا يعملون على محاصرتها وتبصير المجتمع بمآلاتها من خلال أعمال فنية وثقافية عدة، وفي تقديري ليس هناك منتصر في هذا الصراع المستعر بين الطرفين، والخاسر الأكبر هو المواطن المدني الذي يدفع ثمن القتال وتزايد الضائقة المعيشية ومعدلات الانتهاكات”، مضيفاً أن “غالبية المبدعين فعلوا كل ما يمكن فعله من أجل إيقاف الحرب، على رغم استقطاب بعضهم من قبل الجيش السوداني وقوات الدعم السريع”.
وأشار عباس إلى أن “الشعراء والفنانين والتشكيليين قدموا أعمالاً كثيرة تنبذ العنف والقتال وتدعو إلى المحبة والسلام، وهناك خطط جديدة لمحاصرة الطرفين المتقاتلين بالأعمال الإبداعية المختلفة”.
وبين الشاعر السوداني أن “هذه الحرب أنتجت تداعيات خطرة، منها تفشي خطاب العنصرية والكراهية وعدم قبول الآخر، وأسوأ ما في نفوس السودانيين خرج خلال عامين من الصراع المسلح”.
وتابع “الخروج من هذا المستنقع يتطلب عملاً كبيراً من المبدعين وأهل الفكر والثقافة والعلم، فلن تنفع القبلية والجهوية ولا احتقار الآخر في هذه المرحلة، وإنما الرحابة الإنسانية فقط تجمعنا كسودانيين”، مردفاً “نحتاج إلى تضميد الجراح والتربية من أجل تجانس التنوع السوداني، ويجب أن ننظر إلى شعوب العالم كيف تتقارب وتتحاب مع بعضها، فنحن ندمر بلادنا ونخون جيراننا وأصحابنا، وعلى كل أهل الإبداع والفكر والثقافة مخاطبة هذه الظاهرة”.
تخطي العقبات
وعلى الصعيد نفسه أوضح الناشط في مجال التنمية المستدامة وتمكين المجتمع مدني عباس مدني أن “المجتمع المدني السوداني أسهم في التعاطي بفعالية مع الوضع الإنساني عقب اندلاع الحرب مباشرة، وتمددت المبادرات لتشمل ولايات سودانية عدة لتوفير الأمن الغذائي وتقديم خدمات الرعاية الصحية والوصول إلى المنظمات الدولية، فضلاً عن المجتمعات المستهدفة”، مضيفاً أن “المجتمع المدني في السودان يواجه تحديات مختلفة ويحاول أن يصمد فيها، ويسهم في إحداث تغييرات في هذا المسار لمصلحة قضايا السلام والتحول الديمقراطي والتنمية وحقوق الإنسان”.
وأشار عباس إلى أن “طول أمد الحرب أجبر مكونات المجتمع المدني على ترتيب أوراقها والعمل في المجال الإنساني، كما لجأ فاعلون كثر إلى دول الجوار حيث انتظمت أنشطة وحوارات عدة حول الأدوار المطلوبة في إيقاف الحرب والعمل الإنساني واستعادة مسار التحول الديمقراطي”.
ونوه الناشط في مجال التنمية المستدامة وتمكين المجتمع إلى “أنه وعلى رغم التحديات التي تواجه السودان بسبب الحرب من تهديد المجاعة وانقسام الدولة، والملاحقة التي تطاول الفاعلين في الفضاء المدني، لكن هناك عوامل مختلفة تشجع على الاعتقاد بأن المجتمع المدني مؤهل للعب أدوار مهمة في التصدي لكل العقبات والعراقيل، فالنشاط لدى المجموعات الشبابية والنسوية في إعادة التنظيم وترتيب أنفسهم يمكن أن يقودنا إلى مجتمع مدني فعال وحيوي وذا دور كبير في إيقاف الحرب والتصدي للكوارث الإنسانية في البلاد، إضافة إلى الإسهام بفعالية في إعادة البناء الوطني الذي مزقه الصراع المسلح”.
استنهاض الهمم
وعلى صعيد متصل أشار الشاعر السوداني أزهري محمد علي إلى أن “الواقع الحالي مؤلم لكننا على رغم هذه العتمة نحلم بسودان خال من القتل والاغتصاب والتنكيل بالناس، ومحاولة تغييب أجندة المجتمع المدني والانتقال لنظام ديمقراطي”، مضيفاً أن “الحرب حال من حالات القبح والسلام من القيم الفاضلة والجمال، وبالتالي فإن الشعر ينقلنا من القبح إلى الجمال”.
وأشار محمد علي إلى أن “الشعر هو دعوة إلى الجمال ويقوم بدور تنويري لاستنهاض الهمم لبلوغ الغايات الكبيرة، وستظل القصيدة حائطاً منيعاً أمام العنف والقبح والسواد”.
ودعا الشاعر السوداني المبدعين السودانيين كافة إلى تقديم إسهاماتهم لتثبيت قيم السلام والحفاظ على الدولة السودانية، والدفاع عن وحدة المجتمع والحفاظ على قيمه من الانهيار.
وتابع “الشعراء تقسموا بين الأماكن البعيدة، ولكن الشعر والأدب موجود ويحمل رسالته في كل مكان، ويستطيع أن يخاطب الضمير الجمعي والذائقة والهموم الوطنية والحياتية أينما كانت”، لافتاً إلى أن “السودان يمر بظروف تاريخية ينبغي أن تكون فيها المسؤولية أخلاقية في المقام الأول لتصدير المعرفة وفضح الزيف”.
تخوين واستهداف
من جانبه عد الناشط المجتمعي زكريا النو أن “الحكومة السودانية تنظر إلى الناشطين في مجال العمل المدني بأنهم مجرد شباب ينتمون للأحزاب السياسية ولا يدعمون موقفها في الحرب، وكذلك لا تحسب أنشطتهم ضمن إنجازاتها، كما تتهمهم قوات الدعم السريع بالانتماء للجيش”، مشيراً إلى أن “المتطوعين في غرف الطوارئ ولجان الخدمات في الأحياء والناشطين الحقوقيين تغلبوا على التخوين والاستهداف وأخطار القصف العشوائي أثناء التنقل بالعزيمة والإصرار، ونجحوا في إنقاذ حياة الملايين من خلال تقديم خدمات المطابخ الخيرية والمياه والكهرباء، وكذلك توزيع المواد الغذائية والرعاية الصحية وتنظيم عمليات الإجلاء من مناطق الاشتباكات المسلحة”.
ولفت النو إلى أن “التضحيات التي يقدمها الناشطون للمتضررين من الصراع المسلح ورصد الانتهاكات وتوثيقها والدعم النفسي والاجتماعي والقانوني ينبغي أن تقابل بالتشجيع واستغلال طاقات الشباب المتلهف للعمل الخيري، لأن ما أنجزه المجتمع المدني عجزت مؤسسات الدولة كافة عن تقديم 30 في المئة منه”.
ونبه الناشط المجتمعي إلى أن المجتمع المدني السوداني يخوض معركة لا تقل أهمية عن القتال بالأسلحة، وهي مواجهة شبح الجوع الذي يحاصر العالقين والنازحين في مناطق النزاع، عبر تقديم الوجبات المجانية والخدمات الصحية وتنظيم عمليات الإجلاء إلى المدن الآمنة”.
استقرار اجتماعي
وعلى نحو متصل قال الموسيقار السوداني عاصم الطيب إن “عدداً كبيراً من الفنانين قدموا إنتاجات جديدة خلال فترة الحرب في مختلف المجالات ومنها الغناء والشعر والمسرح والتشكيل، ولها ارتباط موضوعي بالدعوة إلى وقف القتال والجنوح إلى السلم والمحبة، فضلاً عن تقديم أطروحات موضوعية تهدف إلى إنهاء الصراع المسلح وتعزيز سبل التعايش السلمي وبسط الاستقرار الاجتماعي في البلاد”، مضيفاً “أشعر أن الفن هو سلاحي للاحتجاج والمقاومة، فهو يمنحني القوة للحديث بصوت عال عن الأشياء التي لا يجري التطرق إليها، ويتيح لي نشر الرسائل بلغة مرئية، فهو وسيلة للتعبير عن القيم التي أؤمن بها”.
وأوضح الطيب أن “الحرب على مر التاريخ ظلت ضد الإنسانية وتسهم في تقييد فكر الناس، فضلاً عن الآثار الكارثية للأزمات الإنسانية، وبالتالي فأنا أثق بدور الفن باعتبار أنه يجمل الواقع وينشر الحب في النفوس، وبخلاف ذلك لن تتقدم الأمم”.
وأردف “لا حل في السودان إلا بتحقيق السلام الدائم وفق أسس وشروط المجتمع، كما أن أصحاب الفن قادرون على حل القضايا وتحقيق التنمية، لأن السياسة استنفدت أغراضها ولم تنجح في إيجاد الحلول”.
ورأي الموسيقار السوداني أن “نشاط المجموعات الفنية والثقافية في ظل النزاعات والحروب أمر طبيعي وضروري من أجل الإسهام في حل الأزمة، عبر الحوار الخلاق والخطاب الجمالي الداعي إلى نبذ خطاب الكراهية وتعزيز ثقافة السلام والتعايش من دون صراعات قبلية بين المجموعات الثقافية متعددة الأعراق في السودان”.