في ملعب “شيخا بيديا” حيث تُنْثَرُ أحلام اللاعبين على نجيلته الصناعية كحبات المطر الأولى، استقبلت أرض موريتانيا حدثاً استثنائياً يُحكى في سجلات الكرة الافريقية. “سيد البلد” الهلال و”الزعيم” المريخ، عملاقا السودان الذين طالما نسجت منافستهما ملحمةً من أرقى ما شهدته الملاعب الأفريقية، كتبا فصلاً جديداً من هذه الملحمة على أرض نواكشوط، في مشهدٍ جمع بين الأصالة والحداثة، بين الشغف الرياضي والروابط الإنسانية المتجذرة.
لقد كان الدوري الموريتاني هذا الموسم مسرحاً لاستثنائية نادرة. الجمهور الموريتاني، بكل ما يحمله من عشقٍ أصيل للكرة، كان يتابع بكل حيادية “القمة السودانية” التي انتقلت مؤقتاً إلى أرض الصحراء الذهبية. والإعلام المحلي واكب القمة بفرحٍ واضح، وكأن المدينة اكتست حلةً جديدة من البهجة. حدثٌ كهذا في ظل الظروف التي يعيشها السودان، كان رسالة قوية مفادها أن روح الشعب السوداني لا تُقهر، وأن الكرة قد تكون الجسر الذي يعيد التواصل بين الناس.
أحمد سالم.. العقد الموريتاني في تاج الهلال
رغم وجود لاعبيين موريتانيين في صفوف الهلال، إلا أن بريق أحمد سالم كان استثنائياً. الفتى الذي جاء من نادي الجمارك حاملاً أحلام جيلٍ كامل، أثبت أن الموهبة الحقيقية لا تعرف عمراً. لعب وكأنه يقطف النجوم بيديه ليضعها في شباك الخصوم. كل لمسة قدم له كانت كوشمٍ جميل يُضاف إلى جسد الكرة الموريتانية السودانية المشتركة. لكننا نتذكره هنا ليس لأنه الموريتاني الوحيد، بل لأنه أصبح رمزاً لهذا التقارب الرياضي الفريد.
المريخ.. الزعيم الذي يحمل تاريخاً عريقاً
أما المريخ، ذلك العملاق الذي تمرّس في صناعة المجد عبر العقود، فقد قدم بنسخته الحالية أداءً يعكس بعض التذبذب، لكنه ظل محافظاً على هيبة “الزعيم” التي لا تنكر. ففي كرة القدم كما في الحياة، هناك مواسم تصعد فيها إلى القمة، وأخرى تتهيأ فيها للصعود مجدداً. لكن المؤكد أن وجود المريخ في هذه البطولة أضاف بعداً تاريخياً للمنافسة، وجعل من المواجهة بين الفريقين تحفة فنية كروية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
ملعب شيخا بيديا.. الشاهد الأمين
تحول ملعب شيخا بيديا إلى لوحة فنية مرسومة بألوان الوحدة . هذا الملعب الذي شهد مباريات الهلال في دوري الأبطال الأفريقي،والتألق اللافت استضاف فصلاً جديداً من فصول الأخوة الرياضية. أرضيته التي عانقت أقدام النجوم من مختلف الأجيال، احتضن هذه الموسم قمة السودان مع ما تحمل بين طياتها من رسائل تتجاوز أبعاد الملاعب.
الكرة لغة تفوق كل الحدود
هذا الموسم لم يكن مجرد منافسات رياضية عابرة. لقد كان دليلاً عملياً على أن الكرة قد تكون اللغة الوحيدة التي يفهمها الجميع دون ترجمان. في وقتٍ تبحث فيه المنطقة عن جسور للتواصل، جاءت كرة القدم لتقول كلمتها ببلاغة: إن الشعوب تلتقي عندما تلتقي المواهب، وإن الملاعب قد تكون ساحات للوحدة قبل أن تكون ساحات للتنافس.
ختاماً..
عاشت الكرة في موطنها الأصيل، وعاشت العلاقات السودانية الموريتانية التي تجد في مثل هذه الأحداث فرصتها للتجذر أكثر. لن ننسى هذا الموسم الذي جمع بين “سيد البلد” و”الزعيم” على أرضٍ تحب الكرة كما يحبها عشاقها في الخرطوم. ولن ننسى تلك الوجوه الموريتانية السعيدة وهي تشاهد نجوماً من جلدتها يشاركون في صناعة هذا المجد.
فليبقَ هذا الموسم ذكرى عطرة في قلوب الجميع، وليكن بداية لمزيد من اللقاءات التي تثبت أن الكرة قد تكون أجمل وسائل التواصل بين الشعوب.