الجسر البسيط

رؤى تاج السر 

في زمن الغربة والاغتراب، حين تتباعد القلوب كما تتباعد المسافات، تصبح أبسط الكلمات نوراً يهتدي به الإنسان إلى إنسانيته.

في زمنٍ يتسارع فيه الإيقاع حتى نكاد ننسى وجوه بعضنا، يظل السلام هو الجسر البسيط العميق الذي يعيدنا إلى أنفسنا وإلى بعضنا البعض.

تعالوا نعيد للسلام مكانته بيننا.

تعالوا نزرع الكلمة الطيبة في الطرقات، ونحمل دفء الحنية السودانية إلى كل بقعة نعيش فيها، داخل الوطن وخارجه.

لأن السلام ليس مجرد تحية؛ إنه حياة.

“حين يغيب السلام من بيننا، لا يغيب فقط صوت التحية، بل تغيب روح الوطن كلها.”

كان السلام بين السودانيين أكثر من عادة اجتماعية؛ كان رمزاً للودّ، ودليلاً على الحنية والمحبة، وعلى أننا شعب واحد مهما اختلفت قبائلنا ومدننا ولهجاتنا. كانت كلمة “السلام عليكم” تحمل معاني أعمق من مجرد تحية عابرة؛ كانت إعلان محبة، وباب ودّ، وصلة رحم بين القلوب.

في الزمن الجميل، لم يكن السوداني يمر بأي سوداني دون أن يسبق حديثه بتحية السلام. في الأسواق، في الأحياء، في الطرقات، في صفوف البنزين في مخبز العيش في محطة الوقود،حتى لو لم تعرف الشخص، كنت تبادره بالتحية وكأن بينكما عشرة عمر. كان السلام روحاً تسري في جسد المجتمع، يبعث الدفء في النفوس، ويغرس المودة بين الناس.

شيئاً فشيئاً، بدأ هذا السلام يخفت. أصبح البعض يمر وكأنه لا يرى، وأصبح اللقاء بارداً، صامتاً، خالياً من الكلمات الطيبة. وكأن جدراناً خفية ارتفعت بين القلوب، تمنع تلك الكلمة البسيطة التي كانت تفتح أبواب المحبة.

والأدهى أن غياب السلام بدا أكثر وضوحاً في بلاد المهجر؛ حيث نحن أشد حاجة إلى القرب والدفء، فإذا بكثير من السودانيين يمرون ببعضهم وكأن لا شيء يجمعهم: لا سلام، لا تبادل نظرات، لا ابتسامة. مع أن كلمة واحدة كانت كفيلة بتخفيف ألم الغربة، وشعور المرء بأنه بين أهله، مهما ابتعدت به المسافات.

في الغربة، نحن بحاجة إلى السلام أكثر من أي مكان آخر. لأن السلام هنا لا يعني مجرد المجاملة، بل هو صرخة وجود: “انت مابراك .”

غياب السلام غياب لروح الحنية السودانية التي طالما تفاخرنا بها أمام العالم؛ تلك الحنية التي لم تكن تحتاج إلى مناسبة أو إذن، بل كانت جزءاً أصيلاً من نسيج أخلاقنا. كان السلام يحفظ الودّ، ويحمي القلوب من الغربة، ويعيد للإنسان إنسانيته.

اليوم، إذا أردنا أن نستعيد أنفسنا، وأن نعيد سوداننا كما عهدناه، فعلينا أن نعيد للسلام مكانته:

نعلّم أبناءنا أن يبدأوا يومهم بتحية طيبة،

نعيد السلام إلى شوارعنا، إلى بيوتنا، إلى مناسباتنا،

ونجعل التحية عبادة لا عادة، وقيمة إنسانية لا مجاملة ثقيلة.

ابدأ بنفسك. لا تنتظر أن يسلّم عليك أحد.

ابسط يدك، وافتح قلبك، وازرع كلمة السلام في كل مكان تمر به.

فبالسلام تُبنى الأوطان، وبالسلام تُحفظ القلوب، وبالسلام نستعيد سوداننا الجميل الذي نحبه ونشتاق إليه.

Exit mobile version