مصطفى يا مصطفى (2)

فيصل محمد صالح 

طوع مصطفى سيد أحمد قدراته الصوتية والموسيقية لتستوعب كثير من عاميات السودان، كما قلنا، وانتقل للغة المدينية التي تميزت بها قصائد الكتيابي وأزهري محمد علي ويحي فضل الله وخطاب حسن أحمد وقاسم أبوزيد وعاطف خيري ومدني النخلي وعبد العال السيد. …فغني لمدني في فترة الدوحة عديد الاغنيات، منها. 

” واقف براك والهم عصف، ريحا كسح زهرة صباك، ليلا فتح شرفة وجع، قمرا رحل فارق سماك، مطر الحزن عاود هطل، جدد عذاب الأرصفة، ضى المصابيح البعيد، أتعب عيونك .. وإنطفا، لمتين مواعيدك .. سراب، والريد شقا وحرقة وجفا”

وغنى لعبد العال السيد “الدنيل ليل وغربة ومطر”. 

” قولوا للنيل ضفة ضفة، والنسيمات البتاخد، من عفاف ريدتنا عفة، انو شوقي بفيض بحر، شوقي شوق انسان مضيع، ضيعو الليل والسهر، لا ينابيع ريدي جفت، لا ولا اشواقي خفت، كل يوم في غربة زادت، بيها كل الدنيا عرفت، الدنيا ليل غربه ومطر”. 

أما أزهري محمد علي فلم يكن شاعرا تغنى له مصطفى، لكنه صديقه ورفيقه في السكن لسنوات، وشريك رحلة الإبداع الطويلة، وغنى له مصطفى ، من بين ما غنى ” حركت بيك عصب السكون، جلبت ليك الغيم رحط، طرزت ليك النيل زفاف، حرقت ليك الشوق بخور، وفرشت ليك الريد لحاف، لا السكة غيرك تنتهي ولا معاك مليت طواف، يا ريتني لو اقدر اكون، وضاحة يا فجر المشارق، غابة الابنوس عيونك، يا بنية من خبز الفنادق”.

ثم انتقل مصطفى للفصحى فطوعها بلسان سوداني مبين، غنى لشعراء سودانيين وغير سودانيين، وكان هناك خيط دقيق ينتظم هذه الاختيارات 

” انتظرني، فأنا أرحل في الليل وحيدًا، موغلًا منفردًا، في الدهاليز القصيات انتظرني، في البحر انتظرني، انتظرني في حفيف الأجنحة، وسماوات الطيور النازحة، وقت تنهد المدارات وتسود سماء البارحة، انتظرني.” أبوذكرى- الرحيل في الليل

وغنى مريم الأخرى لمحمد عبد الله شمو.

” ﺃﻧﺎ ﻟﺴﺖ ﺃﺩﺭﻱ ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻓﻌﻨﻲ ﺩﻓﻌﺎً ﺇﻟﻴﻚ ؟؟، ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﻌﻠﻨﻲ ﺍﺑﺪﻭ ﺣﺰﻳﻨﺎ ..، ﺣﻴﻦ ﺍﺭﺗﺎﺩ ﺍﻟﺘﺴﻜﻊ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻭﺟﻨﺘﻴﻚ ؟؟ ﻻ ﻋﻠﻴﻚ .. ﻻ ﻋﻠﻴﻚ ..، ﻓﻌﻠﻰ ﻫﺬﻯ ﺍﻟﺴﻔﻮﺡ ﺍﻟﻤﻄﻤﺌﻨﺔ ..، ﻧﺤﻦ ﻗﺎﺗﻠﻨﺎ ﺳﻨﻴﻨﺎً ﻭﺃﻗﺘﺘﻠﻨﺎ، ..ﻧﺤﻦ ﺷﻜﻠﻨﺎ ﺍﻟﺘﺂﻟﻒ ﻓﻲ ﺍﻧﻔﻌﺎﻻﺕ ﺍﻷﺟﻨﺔ ، ﻭﺃﺣﺘﻮﺍﻧﺎ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺍﻟﻤﺪ ﺍﻟﻴﻘﺎﻭﻡ ﻭﺍﻟﺸﺮﺍﻉ ، ﻳﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻨﺖ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺘﺪ ﻓﻲ ﺩﻧﻴﺎﻱ ، ﺳﻬﻼً ﻭﺭﺑﻮﻋﺎً ﻭﺑﻘﺎﻉ.، ﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺪ ﺻﺐ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﺷﻴﺌﺎً ﻣﻦ ﺗﺮﺍﺟﻴﺪﻳﺎ ﺍﻟﺼﺮﺍﻉ ..، ﻭﺍﻟﻤﺪﻯ ﻳﻤﺘﺪ ﻭﺟﺪﺍ ﻋﺎﺑﺮﺍً ﻫﺬي ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ..”

من كان يظن أن غناءا مثل هذا سيصبح من أيقونات الغناء السوداني.. ؟ لو لم يفعل مصطفى شيئا طوال حياته لكنه جعل الشباب يدمنون ويتغنون بمريم الاخرى ووجيدة الشاعر قريب الله عبد الواحد، لكفاه ..

“بعيد عني ..خطاك ما لامست وجه الطريق، ومشيتي لا فوق غيمه لا ظني ..

كأنك من وراء صفحة زجاج مبلول، وراك الريح وقدامك مدى السكة وندا المجهول، وأنادي ليك، وجيدة … وجيدة، لا اتلفتي ولا لوحتي بي إيدك ..

وأنادي ليك .. يجاوبني المدى الفاتح مدارج الهم ..”

وغنى مصطفى للشاعر العراقي مظفر النواب المساورة أمام الباب الثاني ” “يا غريبا يطرق الأبواب، والهوى أبواب، نحن من باب الشجى، ذي الزخرف الرمزي والألغاز والمغزى، وما غنى على أزمانه زرياب، كلنا قد تاب يوما، ثم ألفى نفسه قد تاب عما تاب، كل ما في الكون أصحاب وأيام له إلا الهوى، ما يومه يوم….ولا أصحابه أصحاب”. 

وغنى للشاعر المصري محمود شعبان أغنية الفنان العطبراوي ” في الأسى ضاعت سنيني…فإذا مت اذكريني”.. وهي أغنية تصلح للشجن العظيم..والاسى الكوني الكبير. شخصيا استخسرها على الشجون الصغرى والأحزان العادية.

كسر مصطفى سيد أحمد الحاجز بين الشعر والغناء، كان الظن أن هناك شعر يصلح للغناء، وشعر لمتعة القراءة والاستماع فقط، فكسر مصطفى هذا الحاجز وأثبت أن كل شعر هو في الاصل مشروع أغنية تبحث عن ملحن وحنجرة فنان، ودونك ملحمة “عم عبد الرحيم”

يبقى سؤال حول موسيقى وألحان مصطفى سيد احمد، فالغناء ليس كلمات جميلة فقط. كثيرا ما تم توجيه اتهام لمصطفى بأن ألحانه بسيطة متشابهة. 

والحقيقة ان ألحان مصطفى المكتملة قليلة، منها ( الشجن الاليم، لمحتك، والله نحن مع الطيور، وضاحة، في عيونك ضجة الشوق والهواجس). 

ثم انتقل مصطفى إلى موسكو للعلاج، ثم القاهرة، ثم الدوحة.

طوال هذه الفترة كان يسابق المرض والموت لينتج أكبر عدد من الاغنيات بالعود فقط. لهذا يمكن القول أن أغنياته في هذه البلاد كانت عبارة عن مشاريع لحنية لم تكتمل. لكي تكتمل الاغنية تحتاج لتوزيع وتنفيذ موسيقي وفرقة موسيقية مكتملة، وهذا ما لم يتوفر لمصطفى، وفي اعتقادي هو واجب مؤجل لا بد أن يقوم به موسيقون سودانيون ليكملوا ما بدأه مصطفى. 

هناك جانب مهم في حياة مصطفى ، هو مصطفى الشاعر، فكثيرين لا يعرفون أن مصطفى شارك في كتابة كثير من الاغنيات المنسوبة لبعض شعرائه، أضاف لبعض القصائد، وبدأ هو بعضها الآخر وطلب من الشاعر أم يكملها.

المدهش في تجربة مصطفى أنها عبرت إلى بلاد أخرى، كثير منا سمع الفنان اليمني العسيري يغني “عارفني منك”. وأذكر أنه وأثناء مهرجان الثقافات السودانية في القاهرة بين عامي 96-19997 أن نظمنا يوم كامل على شرف مصطفى سيد أحمد، وفوجئنا بشباب مصريين يطلبون المشاركة، وعرفوا نفسهم بأنهم من معجبي مصطفى، يسمعون أغنياته ويحفظونا أيضا.

كتبت هذه الكلمات عن مصطفى من خلال المعرفة العامة، فإنا لم احتك بمصطفى سيد شخصيا، ونشأت بيننا علاقة صداقة حين كان هو في الدوحة وكنت أعمل في صحيفة “الخرطوم” في القاهرة، وكان عمادها اتصالات تليفونية نتبادل فيها الأنس والهموم.

هناك واجب على أصدقاء مصطفى في المراحل المختلفة من حياته، أن يكتبوا عنه، ويؤرخوا لحياته وحياتهم معه. وأقصد بالتحديد الأصدقاء في الدوحة الذين ربطوني بمصطفى سيد أحمد، عبد الرحمن نجدي، بدر الدين الأمير، مدني النخلي..وآخرين. ما تزال هناك صفحات كثيرة لم تكتب عن مصطفى سيد أحمد، ومن الواجب كتابتها لفائدة الاجيال القادمة.

Exit mobile version