سياسات ترامب الإفريقية: تهديدات مبدأ “أمريكا أولًا”

تقرير - محمد عبد الكريم أحمد

نجح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فيما لم تتجاوز فترة رئاسته الثانية بعدُ شهورها الأربعة الأولى؛ في فرض قواعد اللعبة في علاقات بلاده بالقارة الإفريقية. فبعد تصريحاته المتكررة التي تُعبِّر في جوهرها عن “احتقاره” للساسة الأفارقة بشكل عام في مناسبات سابقة؛ جنح ترامب إلى فرض قرارات أُحادية على الدول الإفريقية، مثل خفض المساعدات الموجهة لأغلبها على خلفية ما اعتبره خروجًا –مِن قِبَل هذه الدول- عن خطوط المصالح الأمريكية بشكل عام، -مثل علاقاتها مع الصين وروسيا-، وعدم فتح أسواقها بشكل كامل، وغير مشروط، أمام الشركات الأمريكية الكبرى مثل شركة ستارلينك التي يملكها رجل الأعمال الأمريكي من أصول جنوب إفريقية إيلون ماسك، والصديق المقرب لترامب خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه في الانتخابات نهاية العام الماضي.

إضافة إلى تعرُّض الاقتصادات الإفريقية لضربة مؤلمة حال تطبيق القرارات التي أعلنها ترامب في مطلع أبريل 2025م برفع نسبة الرسوم الجمركية المفروضة على جميع دول العالم بنسبة لا تقل عن 10%، ووصلت في حالات إفريقية إلى 40-50%.

وتعزيزًا لفكرة ترامب عن مبدأ “أمريكا أولًا”، لا سيما بعد استخدامه لغة واضحة في هذا الاتجاه مِن قبيل تصرُّفه كقائد أعلى للقوات الأمريكية، ودفاعه بشكل مباشر عن مصلحة بلاده في العالم بشكلٍ فرديّ؛ استباقًا لأيّ مواقف للمؤسسات الأمريكية التقليدية؛ أكدت تقارير متعددة توجُّه الإدارة الأمريكية لإحداث خفض غير مسبوق في حجم البعثات الدبلوماسية في العالم، وتركّز هذا الخفض بطبيعة الحال، وعلى نحوٍ يتَّسق مع رؤية ترامب تمامًا، في القارة الإفريقية.

سياسة ترامب الإفريقية: خطوط وهمية

رغم الانخراط الأمريكي القوي في قضايا إفريقية من بوابة حماية المصالح الأمريكية، وفرض قراراتها على دول القارة، فإنه لا يمكن بعدُ تلمُّس ملامح محددة لسياسة إفريقية تقوم بها إدارة ترامب، رغم تقرب عدد من قادة الدول الإفريقية لترامب حتى قبل عقد الانتخابات وتقديمهم وعودًا بتعزيز أكبر للعلاقات مع واشنطن، ومنحها امتيازات اقتصادية واستثمارية، وربما أمنية مهمة.

لكنّ هذه الخطوة لم تتوقع أفق سياسة ترامب العدائية تجاه القارة، واستمراره –فيما يبدو عمليًّا- في احتقار قادتها وابتزاز حكوماتها لأقصى الحدود الممكنة. لذا، كما لاحظت بدقة نوسموت جباداموسي Nosmot Gbadamosi بفورين بوليسي (25 أبريل)، فإن ترامب لم يضع بعدُ أيّ سياسة خارجية محددة تجاه إفريقيا ككل، بعد مرور أكثر من 100 يوم على وجوده في المنصب، باستثناء ما يمكن قراءته من أوامر تنفيذية مستمرة تجاه القارة، مثل وقف تقديم المساعدات الخارجية لدول القارة (باستثناء مصر) لمدة 90 يومًا، وتقليص عدد السفارات الأمريكية، وفرض زيادات غير منطقية على واردات الولايات المتحدة من إفريقيا (فيما لم تتعافَ دول القارة بعدُ من آثار الأزمات الاقتصادية العالمية المترتبة على جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية، والحرب التجارية الراهنة بين الولايات المتحدة والصين).

ويتكشف من خطوات ترامب في إفريقيا انتهاجه سياسة تقوم على مبادلة مباشرة؛ فيقدم العلاقات الأمريكية (كغطاء وضمانة لنظم حُكم هشّة في واقع الأمر في القارة لأسباب داخلية معقدة، وخارجية أكثر خطورة بمرور الوقت)، مقابل تقديم الحكومات الإفريقية مواقف وامتيازات -وتنازلات سيادية ربما- لواشنطن في ملفات تَهُمّ الأخيرة في المقام الأول.

وتتضح أمثلة على ذلك في مواقف الولايات المتحدة الأخيرة تجاه إقليم أرض الصومال والتلويح بالاعتراف به دولة مستقلة مقابل امتيازات بحرية وعسكرية مباشرة لواشنطن (وعدد من حلفائها في إقليم القرن الإفريقي أو خارجه)؛ واحتمال تعليق العلاقات الدبلوماسية مع إريتريا بغضّ النظر عن تداعيات مثل هذه الخطوة على مجمل الأوضاع في القرن الإفريقي والبحر الأحمر؛ والمواقف الأخيرة من أزمة شرقي الكونغو، وربط واشنطن تدخلها لوقف تهديدات الأزمة لسيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية بخطوات الأخيرة لمنح شركات أمريكية كبيرة امتيازات ضخمة في مناطق التعدين في مواقع مختلفة، ولا سيما في إقليم شرقي الكونغو، وهو ما يتكامل مع ما أعلنه البيت الأبيض (عند استضافته لأطراف كونغولية ورواندية في نهاية أبريل 2025م؛ للتوقيع على إعلان مبادئ لوقف إطلاق النار وإطلاق عملية سلام حدّد لها يوم الجمعة 2 مايو) من عزم واشنطن على إطلاق تعاون إقليمي بقيادتها في إقليم البحيرات الكبرى بعد تهدئة التوتر بين كيجالي وكينشاسا؛ ما يعني ضمنًا حصول واشنطن على حصة الأسد من موارد الإقليم، وملاحقة أقرب منافسيها هناك: الصين.

خطط خفض البعثات الدبلوماسية الأمريكية في إفريقيا

يبدو مما سبق أن إدارة ترامب تميل للتعامل مع قضايا علاقاتها مع الدول الإفريقية من منظور حاجة الحكومات الإفريقية (المنتخبة ديمقراطيًّا أو غيرها) لهذه العلاقات كضمانة لاستمرار مقبوليتها الدولية وقوتها الداخلية، وربما –في مستوى آخر من التحليل- لتفادي تعمق الأزمات الداخلية والإقليمية التي تواجه هذه الحكومات بدرجةٍ أو بأخرى.

وتبرهن مواقف واشنطن من أزمة شرق الكونغو تحديدًا على هذه الفرضية؛ إذ يُلاحَظ أنه رغم حرص إعلان المبادئ الذي رعته الخارجية الأمريكية (لا سيما مِن قِبَل ماركو روبيو ومستشار الرئيس للشؤون الإفريقية و”صهره” مسعد بولس) على تأكيد وضع الجهود الأمريكية استكمالًا للجهود الإفريقية والقطرية السابقة؛ فإنه خطا خطوة كبيرة بوضع حزمة من التوافقات التي ستوفر حال الاحترام المتبادل لها (من قبل كينشاسا وكيجالي) اختراقًا حقيقيًّا في الأزمة، التي خلفت مقتل وتشرد مئات الآلاف من مواطني الكونغو، وجهود تسويتها. ولم يكن غريبًا ربط الإعلان مسار التسوية بدخول الاستثمارات الأمريكية (الحكومية وتلك التي يُقدّمها القطاع الخاص) في شرقي الكونغو ومناطق جواره في رواندا وغيرها؛ ضمن جهد أمريكي متسارع لضمان الاستئثار “المؤسساتي” بثروات دول القارة ومقدراتها نظير توفير “السلام الأمريكي” راهنًا ومستقبلًا، لذا فإن نجاح هذا المسار قد يُشكّل سابقة تعتمدها الولايات المتحدة حتى نهاية فترة ترامب الحالية.

وفي السياق نفسه تأتي خطة ترامب لخفض البعثات الدبلوماسية الأمريكية في إفريقيا ضمن خطط أوسع تشمل العالم أجمع. لكنّ الخطة التي يُتوقّع أن تشمل غلق أكثر من 30 سفارة في أرجاء العالم ستتضح وطأتها في إفريقيا أكثر من غيرها؛ إذ تستأثر القارة بالعدد الأكبر في هذه القائمة. وبحسب تقارير غربية مهمة (30 أبريل)؛ فإن مسودة الأمر التنفيذي بهذا الخصوص تُوضّح تلك الحقيقة، مضافًا لها التفاصيل التي سبق أن كشفت عنها صحيفة النيويورك تايمز.

وبحسب المسودة فإن إدارة ترامب ستستكمل إعادة هيكلة مجمل وزارة الخارجية الأمريكية بحلول الأول من أكتوبر المقبل. بينما فنَّد وزير الخارجية “ماركو روبيو” هذه التقارير ووصفها على منصة إكس (وليس وفق بيان رسمي عن وزارته) بأنها “أنباء مزيفة”.

وتزامن ذلك مع تعمق الأزمات الدبلوماسية الأمريكية مع عدد من الدول الإفريقية؛ أبرزها جنوب إفريقيا وليسوتو والكاميرون وجنوب السودان، إضافةً إلى أزمات مكتومة مع عدد آخر من الدول في شمال إفريقيا وغربها. وبحسب توقعات وثيقة الاطلاع على هذه التطورات، فإن واشنطن حسمت قرار غلق سبعة سفارات وقنصليتين في إفريقيا (حددت بعض التقارير هذه السفارات في: إريتريا والصومال وجنوب السودان والسنغال وجمهورية إفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو وليسوتو وغامبيا، وقنصليتين أمريكيتين في دوالا في الكاميرون، وديربان في جنوب إفريقيا). 

ومن قراءة خريطة خطة تقليص الحضور الدبلوماسي الأمريكي يُلاحَظ تركُّز الخطة عملها في إقليم القرن الإفريقي الكبير (الصومال، إريتريا، وجنوب السودان)، في تراجع شكلي هام في إقليم ظل في بؤرة الاهتمامات الأمريكية السياسية والعسكرية والأمنية؛ ومؤشر إضافي على جدية خطط واشنطن في الاعتراف بإقليم أرض الصومال بالتعاون مع دول مجاورة للصومال وبعض القوى المتوسطة النشطة في القارة (مثل الهند ودول خليجية عربية) لصالح تغيير جذري في ترتيبات الأمن الإقليمي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي. كما تشير الخطة إلى توجيه ضربات دبلوماسية عقابية ضد دول صغيرة مثل ليسوتو وغامبيا، وانسحاب أمريكي من جمهورية إفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية؛ حيث تتعمق بصمات الحضور الروسي والصيني هناك.

ترامب وإفريقيا: ماذا بعد؟

رغم توقعات اتضاح سياسات ترامب الإفريقية بشكل أكبر مطلع أكتوبر المقبل مع اكتمال إعادة هيكلة الخارجية الأمريكية، فإن لترامب تصوُّرًا متعمقًا في ذهنه عن القارة الإفريقية وقادتها، يغلب عليه مسحة برغماتية وعنصرية واضحة في آنٍ واحد. ومِن ثَم فإنه يصعب توقع تغيير النهج “الترامبي” الحالي تجاه دول القارة بشكل عام؛ وأنه حتى في حال حدوث تغيير -تحت وطأة أيّ مقاومة تُبديها الدول الإفريقية- فإنه سيظل في حدود متدنية للغاية، ولن تتجاوز حدود تنازلات واشنطن التي يتصورها دونالد ترامب.

أما من جهة الدول الإفريقية فإن قدراتها التفاوضية مع ترامب ستظل محدودة للغاية، حتى في حال عدم إبراز ترامب ورقتي الانتخابات الديمقراطية والشفافية وغيرهما، بالنظر لجوهر طبيعة سياسات تلك الدول الخارجية. وستظل ورقة المراوغة بعلاقات أوثق مع الصين (وروسيا بدرجة أقل) رهن مسار الحرب التجارية الأمريكية- الصينية بالأساس، مما يخصم كثيرًا من قدرات الدول الإفريقية التفاوضية على نحوٍ شبه مستدام.

ويُدلّل على استمرار نظرة ترامب لإفريقيا كفناء خلفي لأزمات العالم وصراعاته: إجابته المبهمة نهاية أبريل 2025م عند سؤاله عن أيّ زيارة مرتقبة له لإفريقيا؟ بتأكيده أنه سيفعل ذلك بكل تأكيد قبل نهاية فترة إدارته الحالية، وهو ردّ يكشف عن غياب وجود سياسة أمريكية “مؤسساتية” تجاه إفريقيا، وأنها ستظل محكومة بسلوك ترامب الشخصي وتصوراته وشبكة علاقاته مع عددٍ من الشركات الأمريكية الكبيرة ذات المصالح الراهنة والمستقبلية في الدول الإفريقية في قطاعات الاتصالات والطاقة والبنية الأساسية، إضافةً إلى وجود بُعْد أيديولوجي استعلائي يزداد وضوحًا يومًا بعد يوم في رؤية ترامب لإفريقيا، وهذا مثار تساؤلات ونقاشات أخرى، تلقي مزيدًا من الشكوك حول تحسُّن سياسات واشنطن الإفريقية في الأعوام القليلة المقبلة حتى نهاية ولاية إدارة ترامب في 20 يناير 2029م.

Exit mobile version