منذ فترة طويلة كنت مهتما بمتابعة الأغنيات باللغة العربية الفصحى في الغناء السوداني الحديث، متى وكيف ظهرت، وما هو تأثيرها في الذوق والشعور العام.
ومن مراجع كثيرة كان هناك اتفاق أن اول أغنية فصحى هي عروس الروض ” ياعروس الروض يا ذات الجناح…يا حمامة، سافري مصحوبة عند الصباح …بالسلامة، وأذكري شوق فؤادي ذي الجراح..وهيامه..، سافري من قبل يشتد الهجير بالنزوح، واسبحي ما بين أمواج الأثير مثل روحي، وإذا لاح لك الروض النضير فاستريحي”، هي أول أغنية فصحى في مرحلة الحقيبة، وشاعرها لبناني من شعراء المهجر هو الياس فرحات. لا أعرف كيف تسربت هذه الاغنية، في تلك الفترة التي سيطرت فيها أغنية الحقيبة، وإن كان معظم شعراء الحقيبة على اطلاع على الشعر العربي قديمه وحديثه، وقد يكون أحدهم هو الذي قدمها للفنان فضل المولى زنقار ليلحنها ويغنيها، ثم جاء من بعده الفنان الكبير عبد العزيز داود ليغنيها بصوته الفخم.. المدهش أن هذه الاغنية منتشرة في عدد من البلاد العربية بلحن خليجي، وقد غناها عدد كبير من المطربين السعوديين والكويتيين من بينهم محمد عبده وطلال المداح وعبادي الجوهر.
لكن اتفق الاستاذ السر قدور والموسيقار الدكتور كمال يوسف على بداية أخرى لغناء الفصحى، وهي إنشاد الشاعر والفنان خليل فرح لقصيدة عمرو إبن أبي ربيعة ” أعبدة ما ينسى مودتك القلب، .. وَلا هُوَ يُسليهِ رَخاءٌ وَلا كَربُ، ..وَلا قَولُ واشٍ كاشِحٍ ذي عَداوَةٍ،..وَلا بُعدُ دارٍ إِن نَأَيتِ وَلا قُربُ، ..وَما ذاكِ مِن نُعمى لَدَيكِ أَصابَها، ..وَلَكِنَّ حُبّاً ما يُقارِبُهُ حُبُّ، َإِن تَقبَلي يا عَبدَ تَوبَةَ تائِبٍ، يَتُب ثُمَّ لا يُوجَد لَهُ أَبَداً ذَنبُ”..وهي من عيون الشعر العربي، ولا مجال للسؤال عن كيف عثر عليها خليل فرح، وهو من هو في المعرفة والاطلاع.
كان الأستاذ السر قدور أول من قال بذلك، وجادلته ولم اقتنع بأن الإنشاد يكون في موضع الغناء، ثم حضرت محاضرة للدكتور كمال يوسف عن غناء الفصحى، فوجدته قبل أن يقول أي كلمة ، يمد يده ليفتح المسجل، وينطلق صوت خليل فرح “أعبدة ما ينسى مودتك القلب..” فهمت الرسالة وقلت له بعد المحاضرة أني حضرت لأجادل، ولكن بدايتك ..”قطعت قول كل خطيب”.
ومن أغنيات الفصحى القديمة ما غناه الفنان حسن سليمان “الهاوي” للشاعر التونسي أبو القاسم الشابي “صلوات في هيكل الحب” المعروفة عندنا بمقدمتها ..”عذبةٌ أنتِ كالطفولة كالأحلام كاللحنِ كالصباحِ الجديدِ ; كالسماء الضحوكِ ..كالليلةِ القمراءِ.. كالوردِ ..كابتسامِ الوليدِ.” والهاوي هو رفيق الفنان الكبير حسن عطية في تعلم العود على يد عبد القادر سليمان الشقيق الاكبر للهاوي. ويبدو أن للسودانيين عشق مع أبو القاسم الشابي شاعر “إذا الشعب يوما أراد الحياة”..فبعد سنوات غنى له الفنان حمد الرياح أغنية الصباح الجديد ..” أُسْكُني يا جرَاحْ وأسكُتي يا شُجُونْ، ماتَ عهد النُّواحْ وَزَمانُ الجُنُونْ، وَأَطَلَّ الصَّبَاحْ مِنْ وراءِ القُرُونْ..،..في فِجاجِ الرّدى قد دفنتُ الألَمْ، ونثرتُ الدُّموعْ لرياحِ العَدَمْ، واتّخذتُ الحياة مِعزفاً للنّغمْ، أتغنَّى عليه في رحابِ الزّمانْ..،..وأذبتُ الأسَى في جمال الوجودْ، ودحوتُ الفؤادْ واحة ً للنّشيدْ، والضِّيا والظِّلالْ والشَّذَى والورودْ، والهوى والشَّبابَّ والمنى والحَنانْ..”. وقد غناها أيضا الفنان اليمني-السعودي أبوبكر سالم بالفقيه.
واظن أن الفنان إبراهيم الكاشف قد سبق الكثيرين بأغنية “وداعا..روضتي الغناء” للشاعر حميدة ابو عشر وما ظن الناس أنه قادر على غناء الفصحى وهو الموسوم بالامية.. “طويت الماضي في قلبي ..، وعشت على صدى الذكرى ..، وهذا الدمع قد ينبيء ..، بظلم المهجة الحيرى ، لماذا الهجر ياحبي ..، لماذا دهرنا ضن ..، وشبع روحي بالياس ..”
وغنى عثمان حسين لقرشي محمد حسن “اللقاء الأول..” يا حبيبي قلت لي في اللقاء الأول، بين همس السنبل..وخرير الجدول،
في المساء المقبل ..سوف تلقاني ولكن ما ألتقينا، أقبل الليل وصمت الليل طالا، وضياء البدر في الأفق تلألأ، والربى أصغت حوالينا الظلالا، ثم ذاب الموج في الشط وسالا..”
ولا أعلم الترتيب الزمني لهذه الاغنيات وايهما سبقت الاخرى.
والتفت التاج مصطفى للموشحات الأندلسية..فغنى ..” أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى، قَد دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع، وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه، وَشَرِبت الراحَ مِن راحَتِه، كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِه، جَذَبَ الزِقَّ إِلَيهِ وَاِتَّكا، وَسَقاني أَربَعاً في أَربَع..”
ونواصل….