دروز بلغراد : عن الرواية المعرفية

فيصل محمد صالح 

لا أعلم أن كان هناك تصنيف مثل هذا في عالم الروايات، أم لا، فإن كان موجودا، فخير وبركة، وإن لم يك موجودا فخذوه عني. وهذا النوع من الروايات يقوم على معارف ومعلومات مكثفة، جغرافية وتاريخية وعلمية واجتماعية واقتصادية، أنواع مختلفة من معلومات ووقائع وأحداث حقيقية ، يتخذها كخلفية، ثم يزرع شخوصه وروايته داخلها ويأخذها في المسار الذي خطط له، أو أحيانا تأخذه هي إلى المسار الذي اختارته.

وصلتني في المعتقل الأخير بعد انقلاب أكتوبر عدد من الروايات كنت قد اقتنيتها ليلة الانقلاب من معرض الكتاب، قرأت، كالعادة، كل نسخة منها مرتين وثلاث، ولا تزال تعلق بذاكرتي رواية “دروز بلغراد- حكاية حنا يعقوب” للروائي اللبناني ربيع جابر، الحائزة على جائزة البوكر العربية.

تتناول الرواية أحداث مجازر 1860 في جبل لبنان بعد الصراع الذي نشب بين المسيحيين والدروز، وهي حادثة واقعية قرر بعدها الوالي العثماني نفي 550 درزياً إلى بلغراد وطرابلس الغرب في القرن التاسع عشر.. بمصادفة تاريخية، أو من صنع خيال المؤلف، كما أظن، تم اقتياد مواطن مسيحي مع الدروز، وانتهي به الأمر في بلاد البلقان التي كان جزءا كبيرا منها تحت الولاية العثمانية.

تدور أحداث الرواية بعد ذلك عن حياة حنا يعقوب، المسيحي المأخوذ بالقهر والظلم مع الدروز، وتعكس من خلاله حياة الشقاء والمعاناة التي عاشها هؤلاء الدروز المنفيين. المهم في هذه الرواية ، والذي لفت نظري وجعلني أصنفها ضمن الروايات المعرفية، هي كمية المعلومات التي استوعبها المؤلف وعكسها في الرواية. وأقصد هنا الوقائع التاريخية الحقيقية، ثم المعلومات الجغرافية والطبيعية والسياسية الهائلة عن منطقة البلقان، حيث يتجول فيها الاسرى الدروز من منطقة لأخرى. 

يعرف المؤلف جغرافيا المنطقة وبيئتها الطبيعية، أنهارها وجبالها وغاباتها، ومنتجاتها الزراعية، أشجارها وثمارها وحيواناتها. وبالتأكيد هو لم يكتب ذلك من الخيال، لكنه درس وتعلم وراجع المعلومات بشكل مكثف، وبذل فيها جهدا وزمنا، ثم لم يعطينا حصة جغرافيا أو تاريخ ثقيلة الظل، لكنه أعطانا رواية مذهلة، حافلة بالأحداث والوقائع والمشاعر الإنسانية. الوقائع والأحداث والمكان وبيئته، رغم ثرائها وغناها، تشكل فقط خلفية لحياة حنا يعقوب، الذي عاد بعد معاناة وشقاء سنين، إلى جبل لبنان . أظن أن منطق التاريخ يقول أن أولئك الدروز لم يعودوا أبدا، مات من مات منهم وهم يعملون في المزارع وعمليات البناء وسط معاملة قاسية، وذاب من عاش منهم وسط سكان المنطقة. إلا أن المؤلف قرر باالنيابة عن القراء المتعاطفين، فيما أظن، أن يكافئ حنا يعقوب، ويكافئنا، بعودته إلى منطقته وأسرته.

أظن، كقارئ ذو خبرة، يا صديقي عثمان شنقر، وليس كناقد، أن رواية حمور زيادة “شوق الدرويش” تقع ضمن هذا التعريف. الرواية تحكي عن حياة العاشق المجنون “بخيت منديل” الذي عاش مرحلة سقوط الدولة المهدية وعودة الاستعمار. اتخذ المؤلف الأحداث التاريخية كخلفية يروي من خلالها قصة عشق بخيت منديل الاسطوري لـ”ثيودورا” اليونانية التي جاءت ضمن بعثة مسيحية. ولكي يضع القصة في إطارها بذل المؤلف جهدا في استيعاب تلك الفترة التاريخية وأحداثها.

من أوائل الروايات التي لفتت نظري وصنفتها بهذا التصنيف كانت رواية “المترجم الخائن، للكاتب السوري فواز حداد، وهي رواية تعكس حكايا وأحداث وتجارب، بل ومؤامرات، تقع داخل الوسط الثقافي مع تقاطعاته مع الوسط السياسي. وفي هذه الرواية أيضا، حجم هائل من المعارف النقدية الادبية وعوالمها، بطريقة تجعلك تدرك حجم الجهد الذي بذله الكاتب في تجميع ورصد المعلومات، وكمية وحجم القراءات التي استعرضها، قبل أن يكتب الرواية. طبعا قد تكون هذه جزء من معرفته العادية، أي أنه لم يتقصدها فقط من أجل كتابة الرواية، لكنها في كل الاحوال مائدة غنية وثرية من المعارف الأدبية والثقافية.

غاية الامر أن كتابة الرواية لم تعد مجرد خيال ثري، وإن كان هذا ضروريا، لكن الرواية المعاصرة صارت عملا يتطلب جهدا كبيرا في القراءة والاطلاع وتوسيع المواعين المعرفية، بجانب الادوات الفنية للكتابة. بالمقابل فإن عالم التاريخ والجغرافيا والعلوم لن يستطع كتابة رواية تستند على معارفه في ذلك العلم إن لم يكن له خيال وأدوات الروائي.

عموما عليهم أن يكتبوا، وعلينا أن نقرأ، فليس لنا من جهدهم نصيب، إلا المتعة، وهي المعيار النقدي الذي أعرفه.

Exit mobile version