الأب

عبد العزيز بركة ساكن 

مات الأب، وحيداً على فراشه، كما كان وحيداً طوال حياته لم يدفنه أحد مات الأب دون أن تقام له جنازة، لقد تحللت جثته بصورة تامة..

أبيا

عمي

على سريره في بينه الخلوي المنعزل

خالي

صديقي

أخي

بالطبع لم يكن ذلك اختياره الأخير، قبل موته بأيام قلائل فكر الأب في العودة إلى بلاده وهي الفكرة التي لم تخطر له على بال طوال الثلاثين عاما التي قضاها متغربا من أجل العمل وتحقيق أحلام الحالمين.

قرر أن يعود ليس إلا من أجل إسكات ماكينات الأسئلة، ولكنه مات. الأب لا يرغب في الموت، يعرف أنه سيموت ولكن ليس الان لديه ما لم يكن القرار نابعاً منه، بل من أجل تجنب إلحاج أبنائه وأحفاده في مطالبته بالعودة كانوا يؤكدون له أن كل الذي جعله يتغرب قد زال: تزوجت بنتيه، بعد أن تخرجنا من كلية الطب، تزوج ولده الوحيد الذي يعمل الآن معلما بالمدارس الثانوية أصبحت زوجته التي هي أمهم عجوز في السنين قالوا له صراحة إنها أصبحت لا تطالب بشيء، لأنه ببساطة لديها كل شيء. المال والبنون، وهما كما ذكر القرآن الكريم: زينة الحياة الدنياء.

يخصه من الحلم ويرغب في تحقيقه.

حلمه بسيط جدا أيضا، وهو أن ينعم بالصمت. ماذا يعني أن ينعم بالصمت أن يسكت كل من هو حوله أن يصمتوا ولو لوقت قليل أن يصمتوا للأبد رب العمل، أبناؤه الذين تغرب من أجل إسكات أسئلتهم الملحة في الحياة، ولكنهم أنجبوا ماكينات أسئلة مزعجة.

تزوج أمهم لإسكات أسئلة والديه متى تتزوج، أنجبهم لإسكات الأهل والأصدقاء: ألا ترغب في الأبناء نحن لا نحتاج المال، نحتاج لك أنت فقط، رجاء عد. سأل الأب نفسه قبل موته بأيام قلائل:

لماذا تركت بلادي وتغربت، ألم يكن ذلك تجنبا للإلحاح والمطالبات والإجابة على الأسئلة التي لا يستطيع معها صبرا، والان يلاحقه كل ما هرب منه على مشارف السبعين من العمر، وهو أقل احتمالا وأقل طاقة وأقل إمكانية على المراوغة، ويعاني من ارتفاع ضغط الدم وضيق الشريان التاجي وألم في المفاصل.

سافر لإسكات طنين العطالة والحاجة، رغب في الابتعاد عن كل ما بإمكانه أن يسأل.

 رفض شراء جوال لكي لا تلاحقه الأسئلة والأصوات. لكنه عاد وامتلك واحدا تجنبا السؤال:

لماذا لا تمتلك جوالا؟

ألا تريد أن تتحدث لأمنا وأمك وأحفادك وأبنائك، وجيرانك وأقربائك كل ما يستطيع أن يقوله لهم:

وكل الناس التي يهمها أمرك؟

حسنا سأفعل بعد يومين أو ثلاثة، ربنا يهون كل أمر قاسي، يا أبنائي القدم لها رافع.

لماذا وكيف ومتي وأين؟

يغلق التلفون يرن التلفون مرة أخرى، تنهمر عليه الأسئلة:

يا خالي، تشتاق لك.

لقد حقق أحلام كل ذي حلم، ومن هم ليسوا بذي أحلام، لماذا لا يتركونه يحقق حلمه الخاص لماذا لا يصمتون.

أغلق جواله بينما كان يرن في إلحاح، فصل إمداد الكهرباء تماماً. قصمت طنين التلفاز ونقيق مكيف الهواء وصليل الثلاجة وأزيز المصباح الكهربائي وتقنقة التلفون المحلى.

ابني أريد أن أراك قبلما أموت والدك توفي ولم تحضر جنازته، لا أريد أن أموت بشوقي لرؤيتك.

أبي جدتي تحتضر.

زوجي، تعال لكي نعيش ما تبقى لنا من حياة معاً.

أغلق الباب جيدا وجميع النوافذ. كانت فئران الصمت وحدها تتسرب إليه من لا مكان وتقضم أطراف روحه في هدوء ولذة.

Exit mobile version