لم تمنع مآسي وتداعيات الحرب نساء السودان من مقاومة مآلات الصراع المسلح والتغلب على الظروف الصعبة، إذ نجحن في رسم واقع مغاير من خلال العمل في أنشطة تجارية صغيرة تدر عائداً مناسباً يساعدهن في تسيير معيشتهن اليومية، بعدما فقدت كثيرات منهن وظائفهن الأساسية، فضلاً عن تعرض بعض الأزواج والأبناء للاعتقال أو النزوح واللجوء دون الحصول على عمل.
وفي مدينة أم درمان التي شكلت الملاذ الآمن بعدما لجأ إليها معظم الفارين من نيران الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع”، وكذلك مناطق عدة في العاصمة، نشطت النساء في أعمال تجارة العطور البلدية والمشغولات اليدوية والفحم النباتي وغيرها من الأنشطة.
خيارات جديدة
في السياق تقول عواطف المهدي التي تقطن منطقة الجرافة لمنصة (مشاوير) “قبل الحرب كنت أعمل موظفة في إحدى المؤسسات الحكومية، ولم نتقاضي المرتبات لأكثر من عامين، ونتيجة لهذا الوضع تفاقمت معاناة أسرتي المكونة من ثلاثة أطفال، بخاصة وأنني اتولي مسؤليتهم بعد وفاة زوجي.
وأضافت “بعدما انعدمت أمامي الخيارات فكرت في ضرورة التخطيط للخروج من هذا المأزق وذلك من خلال ممارسة أي نشاط كان، وبعد تفكير عميق توصلت إلى إمكانية العمل في صناعة العطور البلدية التي تخص المرأة السودانية ومن ثم بيعها في الأحياء المجاورة، وبالفعل انطلقت في هذا النشاط.
وأوضحت المهدي أن “خلال فترة وجيزة وجدت تلك العطور رواجاً وإقبالاً واسعاً، لا سيما وسط نساء المنطقة حيث أسكن، إضافة إلى النساء اللواتي يغادرن إلى خارج البلاد.
وأشارت إلى أن “هذا النوع من التجارة لم يكن من ضمن خياراتها، لكن الظروف القاسية التي تعيشها أسرتها بسبب الحرب جعلتها تقتحم هذا المجال بعدما كانت تشغل منصباً في إحدى المؤسسات الحكومية، إلى جانب أنها تكفل أطفالاً دون والدهم.
تحول كبير
في سوق صابرين تضع سميرة حسين الخضار على أنواعه في طاولة كبيرة، خصوصاً الطماطم والبطاطس والبامبي والأسود، تعمل طوال ساعات النهار، لا تتكلف أو تبالغ في دعوة المارة لشراء الخضروات، لأن الطاولة المتنوعة كفيلة في جذب الانتباه.
تقول حسين لمنصة (مشاوير) إنها “بدأت هذه المهنة من أجل تربية أبنائها، ومنع العوز والحاجة، وعلى رغم تعليمها الجامعي، إلا أنها لجأت إلى مهنة اضطرارية لم تألفها من لتأمين حاجات أسرتها.
ولفتت إلى أن “الأموال التي تحصل عليها تسهم في توفير الاحتياجات اليومية، إلى جانب سداد رسوم الأبناء في المدارس.
وتشجع حسين النساء على العمل في ظروف الحرب لمساعدة الأسر، وتوكد أن العمل في الأسواق حفزها على عدم العودة للعمل في الوظائف الحكومية حال إنتهاء الحرب.
ابتكار وتجديد
من جانبها، أوضحت ليلى محجوب التي تقطن منطقة الثورات أن “الحرب أسهمت في توقف عملها كممرضة في مستشفيات الخرطوم، ونتيجة لظروف أسرتها ومرض والدها، انخرطت في العمل بالأسواق من خلال بيع الأكلات الشعبية.
وأضافت “أجبر الضغط المعيشي وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية المواطنين على البحث عن بدائل ووجبات خفيفة وزهيدة الثمن لحل أزمة الغذاء، وضم أصناف جديدة إلى لائحة الأطعمة المنزلية بعد الاستغناء عن أطباق رئيسة بسبب الغلاء، ولم تقتصر هذه الأكلات على المنازل فحسب، بل باتت لها سوق نظراً إلى قلة كلفتها، مما يجعلها في المتناول.
وتابعت “احرص على تحضيرها بشكل يومي في سوق صابرين بينما ظل جمهورها يزداد باستمرار في مشهد اعتبره الناس واحداً من تجليات الأزمة الاقتصادية في السودان.
ونوهت محجوب بأن “ظروف الحرب أسهمت في توافر بدائل معقولة السعر إذ حلت “الكسرة” محل الخبز، كما تعد “المديدة” وجبة مهمة، فضلاً عن بليلة العدس الأحمر مع شرائح البصل وسلطة الطماطم بالدكوة، وكل هذه الأصناف أقوم بصناعتها منزلياً ولا احتاج إلى مواد من الأسواق.
وأردفت “هذا العمل بات مصدر رزق جيد بالنسبة إليَّ، ويزداد زبائني في كل يوم، ونجحت في توفير حاجاتي اليومية لي ولأسرتي من دون الدخول في مشكلات تتعلق بالاستدانة من أي شخص.
إرادة وعزيمة
على الصعيد نفسه، تشير الناشطة المجتمعية رانيا عز الدين إلى أن “الحرب كبدت النساء خسائر فادحة في شتى نواحي الحياة، إذ تسببت في فقد وظائفهن، وبخاصة أن معظمهن يعلْن أسراً ممتدة، مما أدى إلى اضطرارهن للنظر إلى ما وراء المعارك، إذ نجدهن في كل موقع يعملن من أجل مواصلة حياتهن ويرسمن واقعاً مختلفاً ويبحثن ويخططن من أجل ايجاد مصدر للرزق، فهناك من اتجهت للعمل في المنازل والمخابز والمحال التجارية وغيرها من الأعمال، في حين استفادت بعضهن من مواهبهن الكامنة لبدء نشاط تجاري لفك الضائقة المعيشية التي تعانيها معظم الأسر السودانية.
وأضافت في حديثها لمنصة (مشاوير) “أدهشتني إرادة النساء القويات اللواتي تجاوزن مآسي الحرب، وبخاصة الأسر التي تعولها نساء، لكن المشكلة في أن استمرار الحرب يعني مزيداً من الانتهاكات التي ستظل تطاول النساء، في ظل غياب وسائل الحماية.
وبينت عز الدين أن “بيئة العمل داخل السودان باتت صعبة للغاية ومواجهة بتحديات كبيرة مثل ارتفاع أسعار المواد التي تدخل في صناعة المنتجات، إلى جانب التهديدات الأمنية وعمليات السلب والنهب، وعلى رغم ذلك يقيني أن المرأة السودانية قادرة على الصمود.
ونوهت الناشطة الاجتماعية إلى أنه “في المقابل هناك نساء قابعات يعانين الظلم الذي وقع عليهن، لذلك لا بد من أن يعملن من أجل النهوض مجدداً وعدم الاستسلام لليأس وفظائع الحرب لأن المشوار نحو الاستقرار لا يزال بعيد المنال.
وختمت حديثها بمناشدة المجتمعات الدولية “كي لا تصبح أزمة نساء السودان منسية، إذ يستوجب التكاتف لدعمهن وحمايتهن، حتى يعملن على إعادة بناء حياتهن.