صحيح، لم يعد العالم يحفل كثيراً بحرب السودان، لقد أصبحت الآن وعقب حرب تل أفيف/ واشنجتون على تهران، محض (مبارزات صغيرة) باستعارة تعبير عبد الله حمدوك.
لكن علينا أن لا ننسى حرب السودان، فهي ليست كما يتصور الناس، ستنتهي عندما يقضي طرف على آخر، أو بتوقيع اتفاق على طاولة مفاوضات، إنها حرب ستظل آثارها النفسية والاجتماعية قائمة إلى سنوات طويلة عقب انتهاؤها.
لماذا؟
لأن في مناطق الحرب، لا تُرسم الخرائط بالحبر، بل بالخوف.
(1)
حين يعيش الإنسان تحت القصف، لا يعود يفكر في الطريق الأقصر، بل في الأقل احتمالاً للقتل. لا يتذكر أسماء الشوارع، بل ظلالها، صوتها، عدد الجثث التي مرّ بها. وهكذا، تتحوّل المدينة إلى خريطة نفسية وعقلية، تظهر فيها أزقة حمراء لا يمكننا الاقتراب منها، ومناطق رمادية نمرّ بها راكضين، وملاجئ صغيرة نمنحها أسماءنا.
لن تعود الخرطوم كما كانت.
الآن، لم تعد (عاصمة) بالمعنى الإداري، بل صارت محيطاً من الطرق المنكوبة، تُبحر فيه الذاكرة بين ركامٍ وآخر.
لم تكن شوارع المدينة أثناء الحرب وحتى الآن قابلة للقياس بالكيلومترات، بل بعدد القناصة، فيما ظلت الجسور عاجزة عن الوصل بين ضفتي النيل، بل بين الحياة والموت.
(2)
في الحرب – ياسادتي – يتحول العقل إلى جهاز ملاحة عصبي؛ يصنع خرائطه الداخلية الخاصّة التي دائماً ما يكون مركزها (النجاة) لا المنطق.
هذه الزاوية آمنة، لأن الجندي الذي يقف هناك كان مبتسماً.
ذلك الزقاق خطر، إذ تنبعث منه رائحة دم متخثر.
هذه السوق يمكن الذهاب إليها صباحاً فقط، لأنها ستتحول إلى “ساحة صيد”، بحلول المساء,
كل هذا يُخزَّن في الدماغ، ليُستخدم لاحقاً عند قرار الحركة، أو الهرب، أو النوم.
(3)
إنه ما يسميه علماء النفس ” الخرائط العثبية للخوف”؛ فحين يتكرر التهديد في مكان محدد، يبدأ الدماغ بتوسيع مساحة الخوف، إلى أن تشمل مناطق مجاورة لا خطر فيها بالضرورة. وفي نهاية المطاف، يتحوّل الحي كله، المدينة كلها، إلى مكان لا يصلح للنجاة.
وهكذا، يصبح المواطن لاجئاً وهو لا يزال في بيته.
قد أصبح السودان، منذ اندلاع حرب الميليشيات، ورشة مفتوحة لرسم الخرائط العصبية الجماعية.
الأمهات تعلّمن أن يبقين قرب الأرض.
الأطفال تعلّموا أن يتجنبوا الألوان المموهة الداكنة (زيّ الجنود).
والرجال صاروا خبراء في “الصمت المناسب” عند الحواجز، بعد أن كانوا أكثر رجال العالم ثرثرة وتنظيراً.
إنها رياضيات البقاء.
هذا حدث أيضاً في أم درمان، والجزيرة والفاشر والنهود والدبيبات وأركان كبيرة أو صغيرة في كردفان الغرة التي صارت الآن “أم لغماً جوة وبره”.
تصوروا:
في الفاشر، لم تعد النقطة الأهم هي السوق، بل مصدر الماء.
هذه ليست خرائط على الورق، إنها خرائط داخل الجلد والذاكرة.
(4)
الأسوأ ليس ما تفعله الحرب بالمكان، بل ما تفعله بالإنسان.
الخوف لا يغادر بسهولة، حتى بعد أن تهدأ البنادق، تبقى تلك الخرائط مرسومة في الدماغ:
يتجنب الناس شوارع آمنة، لأنهم ربطوها بالموت. يهربون من الأصوات العالية، لأنهم سمعوا الانفجارات كثيراً كثيراً.
حتى الذين اختاروا أن يعيشوا في مدنٍ انتهت الحرب فيها، لن تنتهي فيهم الحرب ستظل مشتعلة في نفوسهم حتى يطفئها قابض الأرواح.
وهكذا، لا يحتاج الخراب إلى معارك جديدة، في بابنوسة أو الضعين أو الدبة أو دنقلا؛ يكفيه أن العقل لا ينسى خريطته الأولى.
وفي السودان، هناك ملايين العقول التي تمشي الآن بخريطة غير مرئية…خريطة خوف، محفورة في الذاكرة؛ لا تُمسح، ولا تُطبع، ولا تُصدَّر.