ما بين الأكاديمية والمنبر السياسي
في زمن تتقاطع فيه الهويات مع الأيديولوجيات، ويعيد فيه أبناء الشتات رسم ملامح الحضور في مراكز القوة الغربية، تبرز ثنائية الأب والابن: محمود ممداني، المفكر الأفريقي الراديكالي، وزهران ممداني، السياسي الأمريكي التقدمي، كثنائية تنتمي إلى العالم ذاته، ولكنها تتحرك في تضاريسه من زوايا متباينة.
هذا المقال يحاول سبر أغوار هذه الثنائية من منطلق أنثروبولوجي وفلسفي يتجاوز السيرة إلى جوهر التصور.
محمود ممداني: المعرفة كأداة تفكيك
منذ كتابه المرجعي Citizen and Subject وحتى عمله المعمق Saviors and Survivors، ظل محمود ممداني ينقّب في طبقات الخطاب السياسي الغربي، ليكشف كيف تُعاد صناعة “الضحية” و”الجلاد” من داخل منظومة القوة. في نظره، الدولة الحديثة – بما في ذلك أنظمتها الديمقراطية – لا تزال تشتغل وفق منطق استعماري مقنّع. يرفض محمود توصيف “الإبادة” في دارفور كما تروج له المنظمات الحقوقية الغربية، ويرى فيه إعادة إنتاج للهيمنة الاستعمارية باسم التدخل الإنساني.
في قلب مشروعه المعرفي تقبع فكرة أن “الهوية الإثنية” ليست معطى طبيعيًا، بل بناء سياسي أُنتج داخل المختبر الاستعماري. لذلك، يوجّه نقده ليس فقط إلى الدولة، بل إلى اللغة ذاتها، إلى التصنيفات الجاهزة، إلى البنى المعرفية التي تصوغ وعينا ونظرتنا للعالم. إن خطابه ليس مجرد موقف، بل بنية مقاومة إبستيمولوجية تسعى إلى تفكيك الأساسات التي تقف عليها مفاهيم مثل “الشر”، “الإرهاب”، “العنصرية”، و”النجاة”.
زهران ممداني: الهوية كأداة نضال
على النقيض، يتحرك زهران في قلب السياسة العملية. إنه ليس منظرًا بل نائباً في مجلس ولاية نيويورك. هو ابن مهاجر، مسلم، إفريقي–هندي الأصل، تقدمي يساري، لا يرى في هذه السمات عبئًا، بل أساسًا للشرعية السياسية.
يستخدم زهران هويته الشخصية كأداة للتأثير والتمثيل، لا كموضوع للنقد أو التحليل. في حملاته، يتحدث عن فلسطين، عن العنصرية، عن الإسكان، عن الشرطة، عن الإسلاموفوبيا. وفي كل ذلك، لا يطلب قبولًا من المؤسسة، بل يقتحمها بأجندة تُعيد تعريف من له حق الكلام باسم المدينة والمجتمع.
زهران يشتبك مع الدولة من داخلها، ويعيد توجيه أدواتها: يشرّع، يحتج، ينظم، يتكلم. هنا، يصبح “التغيير” ممارسة واقعية يومية، لا حلمًا تفكيكيًا أو اقتراحًا فلسفيًا. إنه يُجسّد تحول الخطاب من التحليل إلى الفعل، من الجامعة إلى الشارع.
اختلافات جوهرية وتقاطعات خفية
ورغم الروابط العائلية والأصول الثقافية المشتركة، فإن خطاب الأب والابن يتمايز من حيث الشكل والمنهج والغاية.
محمود ممداني يتحرك داخل الحقل الأكاديمي، حيث يكون النقد مركّبًا، والإشكاليات بنيوية، والمعالجة قائمة على تفكيك اللغة والخطاب.
أما زهران ممداني، فيتحرك في الفضاء العام، حيث يكون الخطاب تعبويًا، والعدالة مطلبًا، والعمل السياسي أداة تغيير مباشرة.
بينما يرفض محمود تمجيد الهويات، ويحذر من الوقوع في فخ “التصنيفات الجاهزة”، يحتفي زهران بالهوية بوصفها رافعة نضالية: إنه لا يتحرج من وصف نفسه كـ”مسلم تقدمي”، بل يرى في ذلك مركز قوته. وبينما يسعى الأب إلى مساءلة الهياكل التي تنتج العنف، يسعى الابن إلى تعديلها تشريعيًا، من داخل المجالس المنتخبة.
ومع ذلك، هناك تقاطع عميق بين الاثنين: إيمان مشترك بأن ما يسمى “الطبيعي” هو في حقيقته “سياسي”. أن ما يبدو قدريًا يمكن تغييره، إما من خلال زعزعته نظريًا، أو اختراقه سياسيًا.
وجها المأزق الحديث
يمكن لمحمود ممداني أن يُلام على بروده النظري أحيانًا، على انغماسه في البنية حتى ينسى المأساة الآنية. كما قد يُنتقد زهران على توظيف الهوية في لحظة تتطلب تجاوزها، أو على إغراقه في سردية الضحية رغم معارضته للهيمنة.
لكن كلاهما، بطريقته، يضع أسئلة صعبة أمام جمهور مختلف:
متى تتحول المعرفة إلى أداة سلطة؟
هل السياسة قادرة على كسر الموروث البنيوي؟
وهل الهوية باب للتحرر أم فخٌّ للتماهي؟.
سلالة ضد النسيان
في عائلة ممداني، لا تلتقي الأجيال على مائدة الغداء فقط، بل تلتقي داخل صراع المعنى والموقع. الأب يكتب ضد النسيان، والابن يناضل من أجل ألا يُنسى. أحدهما يُعرّي السلطة من لغتها، والآخر يعيد تركيب اللغة لتخدم مجتمعه.
قد يختلفان في الوسيلة، لكنهما يتفقان في الجذر: رفض الخضوع لصورة العالم كما هي، والسعي نحو عالم يمكن تخيّله من جديد.