شاهدت في 11 نوفمبر 2024 على خشبة مسرح الجامعة الأمريكية بالقاهرة عرضًا مسرحيًا مذهلًا لمسرحية “نون الفجوة” للمؤلف والمخرج المبدع محمد عليش. استمر العرض لمدة 54 دقيقة، كنت فيها منغمسة في متعة بصرية وسمعية وتفاعل عاطفي كبير، شعرت به اثناء مشاهدتي للعرض المسرحي و منذ الوهلة الأولى، فعلقت مشاهده بذاكرتي لقوة تأثير المشاهد المسرحية، خاصة المشهد الاول المتمثل في الديكور و أزياء النسوة و حركتهن المتناسقة باتقان على خشبة المسرح، التي شكلت لوحة فنية افتتاحية أكملت المشهد البصري و كانت بمثابة دعوة لاستكشاف ما سيحدث لاحقا و محفذا على المشاهدة باهتمام وحرص شديدين بنيا عندي علاقة عاطفية و تشويق كبير لمتابعة العرض.
أن استخدام المخرج للديكور والأزياء والموسيقى بشكل مبتكر خاصة في شكل الحوار بين المغنية واداء الممثلات في ترجمة معانتهن و الاختيار الموفق لكلمات الشاعر الكبير محمد الفيتوري الذي أضاف عمقًا وجمالًا للمشهد. تجلت به اولى عبقرياته في جذب الإنتباه من خلال الأداء الصوتي للمغنية و الكلمات الرائعة والموسيقى الساحرة التي كانت جزءًا لا يتجزأ من تأثير العرض، عكست المشاعر والأجواء المشحونة بالتعاطف خاصة عندما كسر المخرج هذا المشهد الجمالي باظهار الحالآت النفسية المختلفة للنسوة، أفراحهن و حينا آلامهن من خلال التكوينات الجسدية التي تظهر التحديات و الضغوط التي يعانين منها و تجسيد قمة المأساة ليس فقط من خلال استخدام اللون الاسود او إظهار مشاعر ( الخزلان، الخوف من المجهول، و الايحائات التي تشير إلى الراهن السياسي، بل أيضا من خلال توظيف مفردات أثارت مشاعر الجمهور و خلقت حالة تعاطف مع المأساة ( خاطرنا مكسور لا نعرف حقيقة انفسنا، صرنا اشلاء) خاصة و نحن كسودانيين نعيش اجواء حرب الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣ و ما أصاب النساء جرائها من مآسي و احزان كبيرة عبر عنها الاختيار الموفق لاسم المسرحية ( نون الفجوة) و دلالاته العميقة.
اعتقد أن هذه المشاهد وضعتنا امام نص قوي الدلالة في بنائه الادبي، عميق في فكرته و متماسك في حبكته الدرامية، ظهر ذلك جليا من خلال السيناريو و اختيار الشخوص، و معالجة القضايا، فقد عالج النص قضيتين جوهريتين تخصان المرأة: هما قمع المجتمع المتمثل في الأعراف والتقاليد والقيود المفروضة عليها، و فكرة المقاومة و التحدي لمواجهة هذه المعضلات وفي البحث عن الذات في ظل ظروف قاهرة، و عدم فقدان الامل في غد مشرق، و هنا تكمن القيمة الكبيرة و العمق المطلوب في تأليف النص و إيجاد المعالجات الحكيمة.
أضاء المخرج و المؤلف جانبا مهما في استدعاء مكونات الثقافة الشعبية السودانية و توظيفها في تجسيد لحظات اليأس و الضعف و الهروب إلى عوالم آمنة تبحث النساء من خلالها عن الحقيقة، و عن الأمل في عوالم يجدن فيها الراحة النفسية، وهنا برز بوضوح استدعاء الأدب الشعبي خاصة من خلال شخصية العرافة التي عبرت عن فكرة إيجاد مهارب أخرى من المعاناة و ابراز دورها في مساعدة النساء في التشبث بالوصول للحقيقة.
كما أن توظيف المفاهيم التقليدية للطقس الشعبي ( الزار) باعتباره أحد طرق العلاج الشعبي الروحي المعروفة في السودان و كثير من الدول العربية و الافريقية و الذي من خلاله يمكن أن تظهر أنواع الخلل النفسي و تمظهرات الاكتئاب و الهيستريا و الشعور بالدونية و الخطيئة، الجوع الوجداني و الاحتياج العاطفي و الكبت الذي يدور حوله النص، فاستخدم المخرج الفنتازيا الموسيقية من خلال إيقاعات أغنيات الزار كشكل علاجي. و هذا أعطى بعدا آخر لتجليات التأليف و الإخراج في استخدام الثقافة الشعبية كأداة لربط العمل بوجدان الجمهور و ايضا لإضفاء الطابع المحلي للثقافة السودانية و عكسها للجمهور الذي لا ينتمي لها ،حيث أكد النص ما قاله آرنست فيشر في كتابه ضرورة الفن بأن ( اي فن ما، و في اي مكان ما، و في اي زمان ما، لابد و أن تكون له صلة قوية بمجتمعه و جذوره وانه ضرورة أساسية للإنسان و وسيلة للتعبير عن الذات و استكشاف العالم ).
اجد ان المخرج استخدم الرمزية والدلالات بشكل فعّال، أحاطت النص بشكل من الغموض المستحب في توظيف الموسيقى وحركات الجسد وتأثير الإضاءة، مما أضاف عمقًا للمشاهد وجعلها أكثر تأثيرًا بخاصة في أدوار العرافة و خبيرة التجميل اللاتي أظهر النص من خلالهن القضايا الاجتماعية الخاصة بالنساء و فتح بها نافذة للتفكير و الحوار ، و عزز الحاجة لمناقشة هذه القضايا خاصة فيما يتعلق بمفهوم المساواة و قضايا النوع وحقوق النساء و التصدي للعنف المجتمعي و تحسين اوضاع النساء بشكل يعطيهن المكانة الاجتماعية التي يستحقنها .
أظهر المخرج تفانيًا في التفاصيل الدقيقة، واستخدم مفاهيم صوفية ولغة دارجة وأمثال شعبية معبرة عن الثقافة المحلية و عن اللغة الشعبية ( يا ساحق يا ماحق يا بلاء و متلاحق، يا شيخ اب قناية الشرابك محاية) لكني اعتقد ان هذا قد يؤثر على فهم الجمهور الذي لا ينتمي لهذه الثقافة، و رغم ذلك أرى أنه لا ينتقص من قيمة العرض.
و اخيرا لا يسعني إلا أن أقدم شكري وامتناني للمؤلف والمخرج محمد عليش على هذا العرض الرائع و الجهد الكبير المبذول فيه الذي أعطاه قيمة فنية متميزة و بعدا ابداعيا له قدرة فائقة على الابتكار تدعو للاحترام و التقدير و الاطمئنان بأن المسرح السوداني قدم و سيقدم أدوارا كبيرة في رفع الوعي.
كما اقدم شكري لكل فريق العمل واقول لهم بكل صدق ان هذا العرض( نون الفجوة) قدم نموذجًا لعمل مسرحي مكتمل الأركان، بأدوات متينة ترتقي بالتفكير النقدي و تدعو للاعجاب الذي أوصلنا حد الدهشة في المشاهدة.