بين اليابسة والموج

عبد الجليل سليمان 

يبحث هذا المقال في تحوّلات التوازن الجيوسياسي في منطقة البحر الأحمر، من خلال التركيز على موقع إريتريا البحري، واستراتيجيات إثيوبيا الطامحة إلى الخروج من الحصار الجغرافي المفروض عليها منذ استقلال إريتريا عام 1993.  

كما يُسلّط الضوء على الفرص المهدورة في الموانئ الإريترية، وعلى رأسها ميناء عَصَب، الذي شهد تراجعًا في الحضور الإماراتي منذ 2021، ويقارن ذلك بمساعي إثيوبيا الحثيثة لبناء منفذ بحري خاص بها، سواء عبر أرض الصومال أو عبر ترتيبات سياسية بديلة. 

وبجانب ذلك؛ يناقش المقال الديناميات الإقليمية المتغيرة في البحر الأحمر، وتحولات النفوذ البحري بين القوى المحلية والدولية، مع طرح سؤال مركزي: هل يمكن لإريتريا أن تعيد تموضعها بوصفها فاعلًا استراتيجيًا بحريًا، لا مجرد معبر للآخرين.

من الانغلاق إلى الانفتاح الجغرافي

منذ استقلال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993، تحوّلت إثيوبيا إلى أكبر دولة حبيسة في العالم من حيث عدد السكان، محرومة من الوصول المباشر إلى البحر الأحمر. مثّل ذلك التحول الجغرافي نقطة انعطاف حاسمة في إدراك إثيوبيا لدورها الإقليمي؛ إذ باتت تعتبر الوصول إلى البحر مسألة أمن قومي، تتجاوز التجارة إلى عمق التصور الاستراتيجي للدولة. 

في المقابل، احتفظت إريتريا بموقع جغرافي استثنائي، يضعها على رأس الامتدادات الجيوسياسية للبحر الأحمر، لكنها لم تستثمره على النحو الذي يوازي أهميته، بفعل عوامل داخلية وخارجية.

سواحل مُعطّلة في قلب البحر الأحمر

تتمتع إريتريا بشريط ساحلي يبلغ طوله أكثر من 1,150 كيلومترًا على البحر الأحمر، يمتد من رأس قصار شمالًا حتى مضيق باب المندب جنوبًا، ويضم موانئ محورية مثل مصوّع (Massawa) وعَصَب (Assab). هذا الموقع يمنحها قدرة كامنة على لعب دور محوري في الأمن البحري والتجارة الإقليمية، لكنه ظل إلى حد بعيد معطّلاً أو مستلبًا.

رغم الأهمية الجيوستراتيجية، لم تُفعِّل إريتريا هذه السواحل بوصفها أداة قوة وطنية. فقد أدّت سياسات العزلة التي انتهجتها الدولة خلال العقدين الأولين بعد الاستقلال، إضافة إلى العقوبات الدولية التي فُرضت عليها (2009–2018)، إلى تقويض قدراتها البحرية، وغياب استثمارات بنيوية في البنية التحتية للموانئ والممرات الساحلية.

مع تحوّل البحر الأحمر إلى ساحة تنافس محموم بين القوى الإقليمية والدولية، بدأت إريتريا تجذب المزيد من الاهتمام .

وفي هذا الإطار، أنشأت الإمارات العربية المتحدة بين عامي 2015–2016 قاعدة عسكرية كبيرة في ميناء عَصَب، استخدمتها لدعم عملياتها العسكرية في اليمن ، وكانت إحدى أبرز مظاهر التوظيف الخارجي للموقع الإريتري. إلا أن هذا لم يدم طويلًا؛ فقد شرعت الإمارات في انسحاب تدريجي من القاعدة الجوية والميناء أوائل عام 2021، وشملت العملية تفكيك غالبية المنشآت العسكرية، بما في ذلك الحظائر الخاصة بالطائرات دون طيار. 

وأظهرت صور الأقمار الصناعية في فبراير 2021 تراجع النشاط العسكري، بينما ظلّ العقد الرسمي لاستخدام الموقع قائمًا من الناحية الشكلية فقط، واقتصر الحضور المتبقي على منشآت لوجستية ومرافق مدنية.

هذا التراجع في التوظيف العسكري الإماراتي يسلّط الضوء على غياب استراتيجية وطنية إريترية مستقلة تُعيد تموضع البلاد كفاعل رئيسي في معادلات البحر الأحمر.

إثيوبيا: الضرورة البحرية ومسارات البحث عن المنفذ

في المقابل، تشكّل إثيوبيا نموذجًا للدولة الحبيسة التي تحاول إعادة إنتاج حضورها البحري من خلال أدوات دبلوماسية وأمنية وتجارية. ومع أن أكثر من 90% من تجارتها تمر عبر ميناء جيبوتي، إلا أن الاعتماد الأحادي على جيبوتي جعل من المنفذ البحري قضية ضاغطة على استقرارها الاقتصادي وأمنها الاستراتيجي.

برزت هذه الرغبة بقوة في خطاب رئيس الوزراء آبي أحمد، الذي أشار في أكثر من مناسبة إلى أن لإثيوبيا “حقًا طبيعيًا” في الوصول إلى البحر، مقترحًا صيغًا لتقاسم الموارد الساحلية مع دول الجوار. 

وقد ظهرت أبرز تجليات هذا التوجه في اتفاقية إثيوبيا–أرض الصومال (صوماليلاند) مطلع عام 2024، والتي تضمّنت منح إثيوبيا منفذاً بحرياً قرب ميناء بربرة، مقابل اعتراف سياسي بإقليم يبحث عن اعتراف كدولة ². 

كما أن المحادثات المتقطعة مع إريتريا حول إعادة تفعيل موانئها لصالح إثيوبيا لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة منذ توقيع اتفاق السلام مع إثيوبيا في 2018.

ورغم هذه التحركات، فإن التحول البحري الإثيوبي يواجه معوّقات هيكلية تتمثل في انعدام الثقة مع جيرانها الساحليين، وعدم وضوح الرؤية الاستراتيجية طويلة المدى، وهو ما يجعل الطموح البحري الإثيوبي معلقًا على توازنات خارجية أكثر منه نابعًا من قدرات داخلية.

تنافس القوى الكبرى وخريطة النفوذ في البحر الأحمر 

لم تعد سواحل البحر الأحمر مجرد خطوط مائية، بل تحوّلت إلى مسرح نفوذ استراتيجي متعدد الأقطاب. تتقاطع فيه مصالح:

الدول الإقليمية: (السعودية، الإمارات، مصر، تركيا، إيران).

القوى الكبرى: (الولايات المتحدة، الصين، روسيا).

في هذا السياق، لم يعد امتلاك الموانئ يكفي، بل باتت “القدرة على إدارتها وتسييسها واستخدامها كورقة ضغط” هي جوهر الصراع الجيوسياسي. 

ومع تصاعد الدور الصيني في تطوير الموانئ ذات الاستخدام المزدوج (مدني–عسكري)، ودخول قوى جديدة في مضيق باب المندب، تزداد الحاجة إلى فهم إريتريا وإثيوبيا كركيزتين استراتيجيتين، لا كمجرد دولتين طرفيتين. 

من الجغرافيا إلى الفاعلية السياسية

ما تزال إريتريا تملك موقعًا جغرافيًا لا يضاهيه أي موقع في المنطقة من حيث التأثير المحتمل، لكنها لم تفعّله بعد بوصفه رافعة قوة وطنية. 

وعلى الجانب الآخر، تخوض إثيوبيا مسارًا مضطربًا لإعادة التموضع البحري، يتراوح بين الدبلوماسية الحدّية والمقايضة السياسية، لكنه يكشف عن رغبة استراتيجية عميقة في كسر العزلة البحرية المفروضة منذ عقود.

وبين الإثنين، يبقى البحر الأحمر مساحة لإعادة تعريف السيادة، وإعادة توزيع النفوذ، حيث لا يمكن استبعاد أي من البلدين من معادلة الأمن الإقليمي الجديدة.

Exit mobile version