أولاً دعوني أتقدم بالشكر للجنة المنظمة للمؤتمر التأسيسي لأبناء الفور في الولايات المتحدة، وهي تطلع بهذا الهم المجتمعي الكبير للدعوة إلى الوحدة، والتعاون، والتفاكر، والحوار حول كيفية إسهامنا جميعاً في الاعتبار من تاريخنا القديم. ذلك الذي يوطد التعايش السلمي لمكوناتنا التي تملك إرثا ثقافياً دام لقرون مديدة، وكل ذلك بفضل سلاطيننا الأماجد، وشراتينا الميامين، وعمدنا البارين، والدمنقاويين الذين هم مناط الحكمة، والبوصلة نحو الحفاظ على سلامة المجتمع.
ولا ننسى دور الميارم العظيمات، الفضليات، ربات الخدور..اللائي صنعن إسهاماً عظيماً، ورائداً، في قيادة إدارة المجتمع. وأسمحوا لي بأن أخصّ بالشكر الصديق عبد المنعم (Really, he is the long man in though, wisdom and dedication )، ولعله يثابر بدوره الكبير في نشر الوعي الثقافي، والإعلامي، منذ نضالاته، وصولاته، في الجامعات ضد محن سلاسل القمع، والاستبداد، والأيدلوجية المهزومة.
وتجدوني حقاً سعيداً هنا بأن التقي صديقي القديم الأستاذ إبراهيم إسحق الذي ما عَرفته إلا باحثاً، وكاتباً مجيداً، في تراث دارفور، وسودنوياً قحاً مهموماً بأهله.
وفوق كل هذا يزيدني حضور الأستاذة حواء صالح جنقو في أي محفل قناعةً بنضالات غير متثائبة للمرأة السودانية، وهي تتوثب في كل مرة لتأكيد جدارتها في دعم الوطن، وريادتها في تشكيل قسماته العامة. وأحي كل المشاركين بجهودهم الاجتماعية، والفكرية، والإعلامية الذين ساهموا في هذا الملم المهم.
واعتقد أن هذا المؤتمر الكبير في معناه سوف يرسخ عضد الاستلهام من دارفور السلطنة، وجلال الاعتبار من ذات تاريخها العريض. إذ كانت فيه أمة الفور القبيلة، والمكون الاجتماعي من القبائل الأخرى، يرسمون لوحة لفيدرالية رائعة قبل أن يتعرف عليها العالم، ودونكم قانون دالي الذي يُدرس في الجامعات الغربية، ذلك الذي يُعرف العالم بإبداع أجدادنا القدماء، واللاحقين من سلاطين الفور، وهم لم يتخاذلوا من صنع الابتكار الإداري لإنتاج نظام بديع، حفظ مكوناتنا سلمياً لقرون عديدة.
إن دارفور هي الحوزة المجتمعية الأفريقية السابقة في تمازجها مع العناصر الوافدة من مصر، وليبيا، وتشاد، ولطائف غرب أفريقيا، وشمال وجنوب السودان، وأفريقيا الوسطى، وحتى أجزاء من أوروبا. وهكذا هي دارفور بؤرةٌ للاجتماع، وبوتقةٌ ثقافية، والتي انصهرت فيها كل معطياتنا العرقية. وذلك بفضل تسامح الذين أسّسوا هذه السلطنة العريقة، وجعلوها وسط ذلك الزمان آيةً لفضاء التواشج الإنساني.
إن دارفور التي ساهمت بآباء كرام، وإباء ملهم، في صنع السودان الحديث هي رهان السودان لأن يبقى دولة، مستلهمةً من نظامها الفيدرالي الذي هدمته القوى الخارجية التي أرادت تفرقة أهل دارفور لمصالحها الذاتية. ومع ذلك فإننا نريدها دارفور التي تقود مع بقية مكوناتنا الجغرافية ركب المجتمع السوداني نحو الدولة الوطنية التي تحقق شعار حرية، سلام، وعدالة.
أما على صعيد حضورها على المستوى الإقليمي فإننا لا ننسى مساهمات ركب المحمل نحو الديار المقدسة في الحجاز. حيث كان السلطان علي دينار آخر السلاطين الذين رعوه بما يعبر عن اضطلاع دارفور بدورها في دعم المجال الحضاري الإسلامي. وما أدلّ على ذلك إلا دولة السلطان علي دينار التي أنتجت عملتها، وعلاقتها الدولية مع الحلفاء، وشراكتها مع الدولة العثمانية، ونشيدها الوطني الذي مثلته عبر الجلالات الموسيقية التي فازت في المسابقات القومية، وأصبحت شعاراً للعسكرتارية السودانية، بكل ما فيها من توظيف سيء لعرقلة الحلم الديمقراطي، وشن الحرب ضد شعوب بلادنا.
إن التعدد الثقافي، والعرقي، والأيديولوجي، والمذهبي الديني، والسياسي، هو ما يميز دارفور الذي عرفت بسماحتها عند رجاحة عقل سلاطينها، وأعوانهم.. ولا مستقبل لدارفور إن لم تستمد وجودها المستمر من هذا الإرث المتسامح الذي بناه أجدادنا، وتمدد ليشمل أجزاءً واسعة من السودان الحالي.
إن تاثير دارفور على المستوى القومي ملحوظٌ على كل المستويات المجتمعية، وما تزال إلى الآن رغم محاولات دق الأسفين المجتمعي في تساكنها البديع مع جوارها الوطني، إنما ترنو للمستقبل بوحدة أبنائها، وبناتها. ذلك مهما تعاظمت مطامع سلطوية، وانتهازية لبعض من أولئك الذين سقطوا في اختبار الولاء للإقليم، وللسودان الوطن بذات الدرجة.
إن الفنون في دارفور من مجامع الغناء، والإيقاعات المتنوعة التي تتقدمها رقصات الكسوك، والفرنقبية التي طورتها البديعة الراحلة مريم أمو، وزوجها الراحل آدم بونقا.
إن هذه الفنون القولية، والسمعيّة، والبصرية، كلها إنما زادنا الذي أسس لليبرالية المزاج الدارفوري، وطبعه بسماته الإنسانية المتصالحة مع ذاتها.
ولعل مكونات الغناء بلهجة دارفور العربية، وإيقاعاتها مثل جمل رقد، والتويا، والكاتم هي أيضا رصيد التنوع الذي امتد إلى أمدرمان، وكل هذا التراث منح ابن الفور الموسيقار العظيم موسى محمد إبراهيم ليقود الأوركسترا السودانية في الستينات، ويقدم أجمل الألحان لأبي داوود: تعتذر بعد إيه، وذكريات عثمان مصطفى: رحت في حالك نسيتني،، وخاتم المنى للبلابل، ومهما أمري يهون عليك لبهاء الدين أبو شلة، وأخريات تكشف عن البراعة اللحنية لهذا الرمز الموسيقي السوداني الباهر.
وهل ننسى استلهام خليل فرح لجلالة السلطان علي دينار في أغنية “عازة في هواك” والتي صارت ميثولوجيا السودان الغنائية التي سعت لتوحده رمزية عزة، ذلك بوصفها نقطة التقاء نوعية للذائقة النغمية لغالب المكونات السودانية.
سادتي المؤتمرين: إن رتق النسيج الاجتماعي – في السودان إجمالاً، ودارفور تخصيصاً – يتطلب التخلي عن القبائلية في التفكير السياسي لكونه طريقاً منغلقاً، ويحمل بذرة فنائه. ولكن ذلك لا يعني التخلي عن الاعتداد بتاريخ قبائلنا السودانية، وهو في مجمله اعتداد بالإسهام الثقافي المستنير، والانفتاح به كذاكرة حضارية استمدت احترامها، وقدرتها على تبني الوافد الحضاري.
إن أهالي دارفور هم من أكثر شعوب الأرض طيبةً، ومودةً، وتوحداً، على المستوى الاجتماعي، وسيخرجون من أزمتهم كما ينبجس طائر الفينيق من الرماد ليشكلوا وطناً للتسامح، وإقليماً يشحذ إطاره القومي الواسع بالزاد، والعتاد، والرأي الفصل. وفوق كل هذا سيكون أهل دارفور في مقدمة أهل الـريادة الداعين لدولة المواطنة التي تعترف بالتعددين الإثني، والثقافي، ولا تحتال عليهما.
لقد ساهمت الدولة المركزية تاريخياً في تشظي النسيج الاجتماعي منذ قرنين مضيا، وكانت دارفور تتجاسر بالمقاومة الملحمية، وتتعاضد بالصبر الصعب، وتتواسى بالأمل الوارف. وما يزال مثقفوها الصادقون يؤمنون بالتعاضد مثل تعاضدكم الميمون هذا ليصنعوا مجتمع الحق، والخير، والجمال في سوداننا الحبيب.
وبمثلما علينا جميعاً أن نعلم أن هذه الحرب الحالية ليست حرب أهل دارفور أصلاً، ولم يوقدوا نارها ليتدفأوا بها. ولكنها بالحق الخطة الخبيثة لعقلية المركز التي توطد حرثه على التفريق بين مكونات البلاد لأهداف أيديولوجية متخثرة، ومناطقية منكفئة، وانتهازية زنيمة.
ولذلك علينا جميعا أن نسهم في المساعدة في إيقاف أهوال، وأحوال، هذه الحرب الخاسرة لنا جميعاً لكونها تدمر بلادنا، وتجعلها على حافة التفتت التام لوحدتها القطرية.
وهي الحرب التي تزيد الفتق على الراتق في نسيج دارفور الاجتماعي، والتي ما فتئت تنكأ جراحها منذ حين طال، وجغرافيتها مكلومة بأساها المر، وأنينها المؤلم، وزفراتها الحرى..بينما تستمر نكبة مواطنيها بالنزوح الداخلي ، واللجوء الخارجي، بسبب استيطان الفواجع الحياتية، والظلم المستدام، والتداعي المجتمعي المؤسف. وذلك وضع مأساوي امتد لعقود لم يعشه قريباً مجتمع آخر في الشمال الجغرافي للبلاد، بل في عموم الدنيا.
فعلينا جميعاً – إذن – أن نشمر عن سواعدنا المتحفزة، ونعيد الاعتبار لذاكراتنا العقلية، ونعمق الحوار السلمي بيننا، لنوجد مساهماتنا في ل لسلام في وقت الحرب، وبعد توقفها. فلنتنادى – والحال هكذا – لبذر هذه الحلم، وسقايته، رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، وأن نجتهد بما نملك من طاقة لتوحيد مساعينا مع الجهود القومية للمفكرين، والمثقفين، والفنانين، والإعلاميين، نحو مشروع لإعادة النسيج الاجتماعي في بلادنا إلى سالف مجده عموماً، وأن نسعى من ثم في دارفور خصوصاً كي نعيدها إلى سيرتها الأولى. وذلك حين كانت السلطنة تأوي الوافد، وتمنحه الأرض المنبسطة بجانب غديرها المخلب للنظر، وبستانها الناضج الثمار، حتى ليغدوا الوافد مواطناً يتمتع بكل حقوقه في الامتلاك، والمصاهرة، والمشاركة في الحكم. هكذا كانت دارفور حفية بوافديها، وتصاهر مكونها القبلي نموذجاً مع أسرة الشايقي العمدة بشير نصر عمدة حلفاية الملوك، والقاضي زكريا إدريس الدنقلاوي، والسنهوري الجعلي والدادينقاوي الملك رحمة الله، واليوناني شاشاتي، وأهالي أولاد الريف الذي نزحوا من بنجا، وأسيوط، فضلاً عن احتوائها لعلماء البرقو، والشناقيط، والفولاني، الذين شكلوا دعامة المستشاريين الفقهاء للسلطنة.
ولا شك أن كل ذلك الإيجاب المجتمعي قد مهد له فكر السلطان الشاب المستنير عبد الرحمن الرشيد، وهو الذي نقل العاصمة من طرة الجبل إلى الفاشر، ودشنها بملتقى ثقافي راتب يعقده في بساتين رهد تندلتي كاستنارة متميزة في مجاهل ذلك القرن الثامن عشر.
إن دارفور بتاريخها الطويل، والمجيد، تحتاج إلى انتباه أبنائها، وبناتها المبدعين، لتطوير مساهمتها الثقافية، بوسائل الإعلام القديمة والجديدة.
فخصوصية ثقافة دارفور، وثقلها الاجتماعي المتنوع، بحاجة إلى قناة فضائية، وراديو، وقد وقفنا على اثر إذاعتي عافية دارفور، وراديو دبنقا، في تعميق الوعي السياسي لمواطنينا، وعكسهما لهوية دارفور الثقافية، والفنية. ودعونا جميعاً نُضمن هذا الاهتمام بدور الإعلام، والثقافة والإبداع، في أولوية مطالباتنا القومية، وجهودنا الدولية الباحثة عن دعم المجتمع الدولي. ما ذلك لشيء إلا لفرادة دارفور التي بجانب مشاركتها في تشكيل فضاء المجتمع في السودان فإنها بحاجة لدعم ثقافاتها، ومواريثها، وفنونها، ولغاتها، حتى تثري التعدد السوداني بهذه القلائد المعرفية المذهبة التي استبطنتها أمثال أهلها الذين عركتهم تحديات الحياة لآلاف السنين.
إنني اقترح لجمعكم الكريم الحيي هذا أن تُضمنوا في توصيات المؤتمر قيام مركز لدراسات السلام، والثقافة والإبداع، في دارفور (Darfur Center for Peace, Culture, and Innovation)..ونعتقد أن لدى الإقليم عطاءً ملموساً لمبدعين أكاديميين في كل المجالات مستمد من دراساتهم العليا في أرقى الجامعات العالمية، وهم قادرون بلاد أدنى شك على رفد المركز المقترح بالقيم المعرفية, والأكاديمية, والرسالية.
أتمنى أيضا لهذا المؤتمر أن يتبنى إصدار:
إعلان دارفور المجتمعي للتعايش السلمي
Darfur Socital Declaration for Co-Existence, DSDC
على أن تنشروه بكل اللغات ليكون دعوة لوحدة أهل دارفور ليساهموا جميعا بتطوير هذا الإعلان، وإخضاعه للحوار وسط مكوناتنا السياسية والمجتمعية من أجل توطيد فرص التعايش السلمي وسط كل مكوناتنا القبلية، وتياراتنا المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني الناشطة داخل السودان، وخارجه. على أن من صميم الحاجة العليا للإعلان تقدير أهمية اظهار رغبة التعاون مع كل الساعين في بلادنا لإيقاف الحرب، والعمل القومي المشترك لإعادة بنائها وفق أسس جديدة للحكم الرشيد.
أشكركم مرة ثانية لتوجيه الدعوة لي لأنال شرف المساهمة معكم للاستلهام من إرث أمة الفور بمعطياتها الجينية، واختلاط هذه الدماء الأفريقية الزكية بكل قومياتنا السودانية.
ولكل هذا نتمنى أن ينهض مثقفو أمة الفور ليكونوا عنصراً للتلاقي السوداني لا عنصراً للانكفاء القبلي المسدود الأفق، ومجالاً لتأسيس الوحدة المجتمعية لأهل الإقليم لا حيزاً لمطامع قبلية لا تنجب سوى الثائرات والاحترابات القبلية، وتهدر دماء أبناء القبيلة المغرر بها أولاً ثم دماء بقية أبناء القبائل الأخرى. ونحمد لكم هذا الاعتزاز الثقافي لإقامة جسر الاعتبار مع إشراقات ماضي الإقليم، وحسبي أن هذا الجهد للتواصل مع إبداع أجدادنا يجب أن يكون ديدن كل قومياتنا السودانية ذات التاريخ المشرف.
ومن هذا المنطلق نتمنى أن يأتي المؤتمر القادم شاملاً لعدد من مثقفي دارفور، والسودان، بكل مكوناتهم العرقية ليتجسر كد عطائكم الفكري، والثقافي، وذلك حتى تتكامل مساهمتكم المجتمعية في قيادة بلادنا نحو أهداف مشتركة تحقق السلام، والعدالة، والمساواة والتعايش السلمي، ودولة القانون التي لا يظلم – عند دهاليزها الدستورية، وعرصاتها القضائية – أحد.