في مثل هذه الأيام، رحل عن دنيانا الكاتب والناقد والمفكر الكبير عيسى الحلو، تاركًا وراءه فراغًا لا يُملأ، ووهجًا لا ينطفئ في ذاكرة الثقافة السودانية والعربية. رحل الرجل الذي كان يشبه الكريستال: صلبًا في مواقفه، لطيفًا في حضوره، نقيًا في فكره، وصافيًا في إنسانيته.
حين تقترب من عيسى الحلو وتتحاوره، تكتشف أن النظرات الحادة التي تميز ملامحه، والكاريزما الصارمة التي تكسو حضوره، لم تكن موجهة إليك أبدًا، بل كانت موجهة ضد الجهل والتراخي المعرفي والإنساني. كان يتحدث بعمق الناقد الماهر، وخيال الروائي الحاذق، ثم يغلف كل ذلك بلطف إنساني خالص.
كان لا يجامل، مهما أحبّك، لكنه لا يجرحك أبدًا. يتواضع حين يقدم لك معلومة، ثم يتلطف ويقول: “دعنا نتحاور، فالمحاورة هي المهمة.” هكذا كان يؤمن، وهكذا عاش.
أذكر زيارتي الأولى والأخيرة له في بيته بحي الجامعة. كان وقتي ضيقًا، كما هي عادتي عند زيارة الوطن، لكن المشافهة معه منحتني إحساسًا بالاتساع… بل بالأبدية. أدهشني اهتمامه العميق بالمعرفة والكتب؛ كان يُهديك الكتاب كما يهدي الجواهري ماسة ثمينة.
وفي اليوم التالي، أصرّ على أخيه، القاص صديق الحلو، أن يقطع مسافة طويلة ليلحق بي في المطار ليهديني كتابه “ريش الببغاء”. ذلك الإصرار غمرني بلطف شديد، لا يُنسى.
بل وحرص على أن ألتقي بصديقه الشاعر الكبير الصادق إلياس حين كان ضيفًا في معرض الشارقة للكتاب، وكأنه أراد أن يقول لي: “انظر، لديّ ماسة أخرى، صديق صادق.”
ولمّا بلغني بخط يده، عبر صورة أرسلها لي ابنته، يعبّر فيها عن فرح طفولي بتكريمه من حاكم الشارقة، وصفني فيها بـ”الصديق الحقيقي”. وقد قال فيها:
“الابن العزيز والصديق الحقيقي… أسامة رقيعة
أنا في حالة من الفرح الطفولي، الذي يمكن أن تفسده الثرثرة، ويقلل من وهجه البوح الصريح.
المهم أن أهلك الطيبين… زواخرك العرب… قيل إن الشارقة ستقوم بالتكريم، كواحد من الكتاب العرب الذين من الممكن أن يعطوا شيئًا.
أنا ومعي زمرة من رفاق السفر وسنوات البحث عن الهوية والوطن… أولئك الذين أشعلوا الأضواء والآن، هيا يا كاتب يا موهوب، ليُنسج ثوب الجمال والخير والحقيقة.”
توقفت طويلًا عند وصفه لي بالصديق الحقيقي، ثم أدركت أن ذلك نابع من تقديره النبيل لقيمة الصداقة والأصدقاء.
حتى فرحه بالتكريم لم يكن لنفسه، بل لأنه شعر، وهو في الثمانين من عمره، أن هناك من لا يزال يؤمن بقدرته على العطاء.
لقد أنفق عيسى الحلو عمره كله في العطاء. لم يعرف سوى الكلمة، والكتاب، والحوار. وكان يرى في المعرفة خلاصًا فرديًا وجماعيًا، وفي الكتابة وطنًا بديلًا.
ليس من اليسير أن تحتوي الكلمات عقل عيسى الحلو الباهر، ولا روحه الموسوعية، ولا وفاءه العميق للأدب والفكر والوطن.
لكن من اليسير أن نُذكّر، في ذكراه، أن الثروات الحقيقية تكمن في عقول أبنائنا وقلوبهم، وأن التاريخ لا تصنعه اللحظات العارضة، بل أعمار طويلة من الصدق والاجتهاد.
في ذكرى رحيله، أقول:
وداعًا أيها الصديق النبيل، ستبقى بيننا، ما بقيت الكلمة، وما بقي الحلم.