على مدى أكثر من عامين ظلت النساء والفتيات السودانيات يدفعن فاتورة باهظة بتعرضهن للانتهاكات الجسيمة في الحرب، حيث واجهن عمليات الاغتصاب و القصف العشوائي المتبادل بين طرفي النزاع، فضلاً عن مشاهدة الدمار والموت والنهب والسلب والتهجير والإخفاء القسري.
ونتيجة لهذه الأوضاع، حدثت آثار وصدمات نفسية لدى آلاف النساء ومئات الفتيات في مدن ومناطق عدة بالبلاد، وأصاب بعضهن الاكتئاب والقلق والخوف واليأس، إلى جانب الانتحار.
صمود وأزمات
تقول المواطنة السودانية نجلاء منير لمنصة (مشاوير) إن “تصاعد وتيرة القتال والقصف المدفعي والجوي، إضافة إلى تزايد معدلات الانتهاكات أسباب جعلتها تغادر ولاية شمال دارفور نحو الولاية الشمالية هرباً من الموت.
وأضافت : صمدت كثيراً مع التنقل المستمر من نيالا إلى الفاشر، ومنها لمعسكر “طويلة”، تصالحت مع الواقع في أوقات كثيرة وتعايشت مع أصوات القصف والرصاص.
وتابعت : مع مرور الوقت تفاقمت الأوضاع الإنسانية، وأصبحت الحياة قاسية نتيجة انعدام المواد الغذائية والدواء جراء الحصار المتواصل لأكثر من عام، إضافة إلى استهداف المواطنين بالقصف الجوي والمدفعي.
مشاهد وانتهاكات
وأشارت منير إلى أن “الوضع المزري أجبرني على النزوح رفقة أبنائي الثلاثة بحثاً عن الأمان والغذاء، فضلاً عن عدم مقدرتي على الالتزام بأبسط المتطلبات بسبب الغلاء ونفاد المدخرات المالية، خصوصاً أننا من دون عائل بعد وفاة زوجي، إضافة إلى صعوبة الحصول على الماء إلا عبر العربات التي تجرها الدواب.
وأردفت “عانيت في رحلة النزوح الطويلة التي امتدت إلى خمسة أيام، إذ سرنا على الأقدام مسافات بعيدة وأخرى بعربات الكارو، وبعد ذلك استقلينا السيارات حتى وصلنا إلى الولاية الشمالية.
وواصلت في القول “الأمر المحزن أنني شاهدت انتهاكات وقتل ودمار جعل حالتي النفسية في غاية السوء، وتزداد إلى الأسوأ يوماً تلو الآخر، إذ إن أطفالي باتوا بلا عائل وسأواجه وحدي تحمل مسؤوليتهم بالكامل، كما أن أطفالي في وضع نفسي سيئ لمشاهدتهم المدنيين والدماء تنهمر من اجسادهم، فلا أدري كيف يتناسون هذا المشهد المؤلم والمحزن.
ونوهت بأنها “ستحاول إيجاد عمل في الولاية الشمالية بعد أن يطيب لها الاستقرار، حتى تتمكن من توفير حاجات أسرتها من العيش والتعليم والصحة، لكن من دون شك أن مواجهة الحياة أمر ليس سهلاً وبخاصة عندما تحاول الاستقرار في مدينة لم تزرها من قبل.
خوف وعنف جنسي
في ذات السياق، تقول الناشطة في مجال حقوق المرأة أم سلمة بخيت لمنصة (مشاوير) إن “الحرب تسببت بأكبر أزمة إنسانية في التاريخ الحديث، وتزايدت تداعياتها بسبب استمرارها، لا سيما أن النساء والفتيات السودانيات دفعن فاتورة باهظة، إذ واجهن صوراً متعددة من المعاناة وتأثرت نفسياتهن بالصدمات الناتجة من الشعور الدائم بالخوف والقلق والتوتر طوال فترة الحرب، بسبب أعمال العنف الجنسي والاسترقاق والاختطاف والاستعباد الجنسي واستخدام أجساد النساء والفتيات سلاحاً في الحرب.
وأضافت : هذه الأزمات التي عاشتها النساء تكابلت عليهن ما بين إصابة بعضهن بشظايا المدفعية ودمار المنازل وسرقتها، التي شكلت بدورها هاجساً نفسياً وحسرة يصعب تجاوزها، علاوة على تحمل أخريات الواجبات المعيشية لأطفالهن وهن في حال من النزوح ومصير مجهول.
وأوضحت بخيت أن “الصراع المسلح كبد النساء قدراً كبيراً من الخسائر الاقتصادية على مستوى الوظائف وفقدان مصادر الدخل، مما دفعهن إلى طرق أبواب الإغاثة والمساعدات، لكن الخسارة الأكبر كانت في مناطق الريف كون النساء يعملن في مجال الزراعة والرعي والأعمال الحرفية، التي تلعب دوراً مهماً في تحقيق الأمن الغذائي، من خلال مساهمتهن في الاقتصاد الزراعي بنحو “80” في المئة من إنتاج الغذاء، ومع استمرار الحرب أصبحن في حاجة ماسة للغذاء بسبب ما حدث من انهيار كامل للقطاع الزراعي، وكن في مواجهة خطر المجاعة.
وتابعت : من المؤكد أن تداعيات الحرب ستكون موجودة في ظل اشتعالها داخل دارفور وكردفان فضلاً عن انتقالها إلى مدن الولايات الشمالية من خلال استهدافها من قبل “الدعم السريع” بالمسيرات الانتحارية، من ثم في الإمكان تكرار ما حدث من انتهاكات بحق النساء داخل الولايات التي شهدت نزاعاً نشطاً، لا سيما أن الانتهاكات أصبحت أداة إجرامية لإذلال النساء خصوصاً الاغتصاب الذي تمتد آثاره النفسية أعواماً طويلة، وهو ما يحتاج إلى علاج من المضاعفات الصحية وغيرها، لكن الحاجة المؤلمة أن هذا الانتهاك (الاغتصاب) قاد بعض النساء وأفراد من الأسرة للانتحار، بل بعضهم تعرض للقتل من قبل رب الأسرة.
معالجات عاجلة
تواصل الناشطة في مجال حقوق المرأة حديثها قائلة “ما واجهته النساء والفتيات كفيل بالإصابة بالجنون، وبخاصة اللائي أنجبن نتيجة الاغتصاب أو الزواج القسري، مما يتطلب إيجاد معالجات إنسانية وتدخل الطب النفسي للناجيات بالمتابعة الدورية، وبخاصة في ظل العودة إلى الديار.
وزادت : من المؤسف أن توقف مراكز الأمراض النفسية سيؤدي إلى عواقب لا يحمد عقباه.
اضطرابات نفسية
على الصعيد نفسه، تقول المتخصصة في الصحة النفسية ميسون التاج لمنصة (مشاوير) إن “شرارة الحرب أحرقت النساء والفتيات، وأدت إلى انتهاكات أسهمت في ارتفاع معدلات الاضطرابات النفسية نتيجة تعرضهن لأبشع الفظائع التي لم تراع حقوق المرأة، وبخاصة من جانب قوات ’الدعم السريع‘، مما تسبب في إصابتهن بالصدمات النفسية، فضلاً عن فقدهن للخصوصية في معسكرات الإيواء. لكن ما فاقم أوضاعهن النفسية الاغتصاب الجنسي الجماعي والتحرش اللفظي وحملهن سفاحاً، وتقاعس القانون في حمايتهن”.
وتابعت “عاشت النساء والفتيات خلال فترة الحرب أوضاعاً مزرية على نطاق واسع، لا سيما القاصرات اللاتي تزوجن من أفراد “الدعم السريع” مقابل دفع مال لأسر لا تملك حق الرفض، إضافة إلى أن هناك بعض النساء شاهدن تصفية رب الأسرة أو الأبناء أمام أعينهن، وهي جديرة بالإصابة بالصدمات النفسية الخطرة.
وخضت التاج على ضرورة إزالة التحديات التي تعوق استقرار العائدين من النزوح داخل المناطق التي حُررت أخيراً من قبضة “الدعم السريع”، إضافة إلى تفعيل دور المصحات النفسية، وبخاصة أن النازحين بصفة عامة تعرضوا إلى أوضاع معقدة داخل مناطق النزوح، مع الأخذ في الاعتبار تنشيطهم اجتماعياً واقتصادياً من خلال دعم المشاريع الصغيرة.
مآسي بالغة التعقيد
بدورها قالت منسقة برنامج السودان في المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي (صيحة) نعمات أبو بكر إن “نساء السودان عشن مآسي بالغة التعقيد، بسبب هذه الحرب وتبعاتها خصوصاً من ناحية النزوح والتشرد وحالات العنف الجنسي التي تواترت تقاريرها مع استمرار المعارك.
وأضافت “مع ازدياد رقعة الحرب عانت النساء والفتيات من الانتهاكات خصوصاً في ما يتعلق بالاغتصاب، باعتباره الجريمة البشعة التي طاولتهن أثناء الحرب خلال وقت يصعب عليهن تجاوزها، وبخاصة وسط الفتيات الصغيرات في العمر، إلى جانب ارتفاع معدلات الاختفاء القسري لعدد كبير من النساء والفتيات، إذ لا يزال البحث جارياً عنهن، فضلاً عن تعرضهن في مواقع سيطرة ’الدعم السريع‘ للاستغلال الذي وصل حد الاستعباد الجنسي، مما أثر في أوضاعهن الصحية جسدياً ونفسياً.
وأشارت منسقة المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي إلى أن “حماية النساء باتت قضية جوهرية يجب الالتفاف حولها من جميع المنظمات التي تدافع عنهن وترصد أوضاعهن منذ اندلاع الحرب، فهن في أمسِّ الحاجة إلى تحريكها وعدم السكوت عنها في ظل الوضع الراهن، الذي تغيب خلاله الجهات التي تعمل في هذا المجال.