وجهة الإدارة الأمريكية لإحلال السلام في المناطق الملتهبة

خالد عمر يوسف 

كتب أ. بابكر فيصل مقالاً مهماً عن وجهة الإدارة الأمريكية لإحلال السلام في المناطق الملتهبة، والتي وضعت السودان مؤخراً كأحد أولوياتها كما تجلى في تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في لقاءه ببعض القادة الأفارقة، وتصريحات المستشار مسعد بولس على هامش توقيع اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا بالعاصمة الأمريكية واشنطن، حيث أوضحت هذه التصريحات عزم إدارة ترامب على إسكات صوت البنادق في السودان.

تشكل هذه التصريحات بارقة أمل حقيقية لوضع حد لمأساة السودانيين/ات التي تطاول أمدها، نسبة للمنهج الذي اتبعته إدارة ترامب في إنهاء بعض حروب المنطقة، وهو منهج قد يبدو غير مألوف بعض الشيء في الدبلوماسية العالمية، من ناحية إفصاحه بلا مواربة عن مصالحه الاقتصادية والأمنية، ومن جهة استخدامه لسياسة الضغوط القصوى، وهي السياسة التي تصلح للاستخدام في الحالة السودانية. 

فالمتكسبين من هذه الحرب لا يقيمون وزناً للكارثة الإنسانية ولا لمعاناة الناس، ويفهمون لغة واحدة فقط هي لغة القوة، وهو منهج غاب عن الجهود الدولية والاقليمية السابقة لإحلال السلام، والتي ظنت أن المنطق السليم والنعومة الدبلوماسية قد تكون مدخلاً للحل السياسي، مما قاد كل هذه المحاولات للفشل.

رغماً عن الفرصة الكبيرة المتاحة في هذا التوجه الأمريكي الجديد، إلا أن ما خطه يراع أ. بابكر فيصل البارع عن السيناريوهات المحتملة صحيح تماماً، إذ أنه من الممكن أن يتراوح الحل بين تقسيم السلطة بين الجنرالات، أو تقسيم السودان نفسه، ومعطيات هذين السيناريوهين حاضرة بقوة في المشهد الداخلي الحالي، فنحن نشهد الآن انقسام السودان متجلياً بصورة واضحة، عبر سيطرة الجيش على أقاليم الشمال والوسط والشرق، وسيطرة الدعم السريع على غالب إقليمي دارفور وكردفان. 

مع شروع الطرفين وحلفائهم في تشكيل حكومات في مناطق سيطرتهم وهو ما سيرسخ واقع التقسيم بصورة يصعب التراجع عنها لاحقاً. اضافة لهذا الإنقسام الفعلي على الأرض، فإن الحرب خلقت حالة من الإنقسام الوجداني العميق، وتصاعدت خطابات الكراهية والعنصرية والمناطقية بصورة بشعة، ستؤثر بلا شك على مستقبل أي رؤية لوحدة السودان.

سيواجه المشروع الامريكي تعقيدات أخرى متعلقة بطبيعة الحرب في السودان وتشابكاتها وعوامل التأثير الداخلية والخارجية عليها، وإن كانت إدارة ترامب قد نحت منحىً جيداً بالتنسيق مع دول إقليمية مهمة يمكن أن تلعب دوراً في إيقاف الحرب في السودان، إلا أن المشهد في السودان أكثر تشعباً وقد يتشابك في بعض جوانبه مع التطورات الأخيرة التي شهدها الشرق الأوسط، لا سيما أن إدارة الأمريكية وبجانب سياساتها الاقتصادية التي ترمي لتوسيع النفوذ الاقتصادي خصوصاً في مجال حيازة المعادن النادرة، فإنها مهتمة جداً بأمن البحر الأحمر حد هجومها عسكرياً على مواقع الحوثيين في اليمن خلال الأشهر الماضية. 

في هذا السياق فقد حملت الأنباء مؤخراً ابتعاث الفريق أول البرهان لمبعوث لواشنطن للترويج لوجهة نظر معسكره للأوضاع في السودان، وبكل تأكيد غير الوعود التي قطعها بالشراكة التجارية والاستثمارية في السودان، فقد حرص على إنكار أي علاقة لمعسكره بالإسلامويين وبإيران، وابدى استعداداً للتعاون في ملف الأسلحة الكيميائية، وقد تجلي هذا المنحى في الخطوات الأخيرة لسلطة بورتسودان التي أعلنت تأجيل الاجتماع الوزاري المشترك بينها وايران، وهي خطوة سبقها إلغاء مؤتمر صحفي كانت السفارة الإيرانية تعتزم عقده في بورتسودان، إضافة لتشكيل لجنة للتحقيق في قضية الاسلحة الكيميائية.

هذه الخطوات تعكس رغبة في كسب ود إدارة ترامب، ولكنها تصطدم بحقائق واقعية أهمها عدم رغبة التيارات الرئيسية في الحركة الإسلامية والمستفيدة من الحرب في أي حل سلمي -ناهيك عن حل لن يحصدوا منه ثمن استثمارهم في استمرار القتال- لذا فإن معسكر بورتسودان سيواجه تحدياً أكبر هذه المرة من تحدي وزارات حركات سلام جوبا الذي رضخ له في نهاية المطاف. تحدي قد يؤثر على وحدته وتماسكه بكل شك. 

في الجانب الآخر فإن معسكر تأسيس أيضاً يواجه تحديات أخرى، فطول أمد مباحثات تشكيل حكومته تعكس الصعوبات داخل التحالف، وحالة الإنقسام المجتمعي التي غذتها الحرب لم تقتصر على المستوى القومي فحسب بل تعدته لانقسامات على المستوى الإقليمي المحلي، مما يصعب مهمة أي من الطرفين في السيطرة الكاملة على أي رقعة جغرافية واسعة ومتماسكة من البلاد. 

يكشف كل هذا أن السيناريو الأرجح هنا ليس التقسيم فقط بل التشظي، فمقومات الدولة في السودان تنهار يومياً بفعل الحرب، ومسار اقتسام السلطة أو اقتسام السودان لن يقود لنموذج ليبيا فحسب، بل لنموذج أكثر تعقيداً من النموذج الصومالي في سنوات قمة الحرب الأهلية التي عصفت بهذا البلد الشقيق لعقود من الزمان.

تحويل الاهتمام الامريكي بالشأن السوداني لفرصة حقيقية للسلام، رهين بأيدي السودانيين أنفسهم، فاهتمام امريكا قد يوفر مناخاً اقليمياً ودولياً يضغط ويحض على وقف الاقتتال، وقد يجلب فرصاً لإعادة إعمار ما دمرته الحرب، وقد يوفر ضمانات لعدم تجدد العنف لردحٍ من الزمان، ولكنه لن يحقق أهم المطلوبات وهو العقد الاجتماعي العادل والمنصف بين السودانيين/ات لتكون هذه آخر حروبهم بالفعل، والذي بدونه لن تنجح أي تسوية في تحقيق الاستقرار طويل الأمد.

المدخل للسلام المستدام يمر عبر السيناريو الثالث الذي طرحه مقال أ. بابكر فيصل، وهو الحوار السياسي الذي يعالج أمهات القضايا مثل أسس الوحدة المنصفة وطبيعة الدولة ونظام الحكم والفيدرالية والجيش الواحد المهني القومي والعدالة ونموذج التنمية وهي القضايا التي لا يمكن معالجتها بصورة مستدامة إلا في إطار مدني ديمقراطي. 

هذا المدخل بيد أهل السودان إذا ارادوا ذلك ونأمل ان يكون هذا خيارهم بشكل عاجل، ليتوقف هذا الدمار الذي يحيق ببلادنا وفق صيغة تضمن الإنصاف والتعايش بين كافة أهلها، فلا خير في هذه الحرب مهما تطاولت آمادها.

Exit mobile version