منذ بداية 2024، بدأ اسم “فيلق أفريقيا” يطفو على سطح الأخبار المتعلقة بالوجود الروسي في القارة، لا سيما في دول الساحل الإفريقي مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر. هذه الكتلة العسكرية الجديدة، التي تمثل الذراع الرسمية لوزارة الدفاع الروسية في أفريقيا، تُعد تطورًا لافتًا في استراتيجية موسكو، وتأتي كبديل مباشر لمجموعة “فاغنر” المثيرة للجدل التي لعبت لسنوات دور “الوكيل غير الرسمي” لروسيا في مناطق النزاع، قبل أن تتعرض لضربة قاصمة بعد مقتل زعيمها يفغيني بريغوجين وانفراط عقدها التنظيمي.
ورث “فيلق أفريقيا” الكثير من إرث فاجنر، سواء من حيث البنية القتالية أو الانتشار الجغرافي أو طبيعة المهام، لكنه يختلف عنها في طبيعته القانونية. فبينما كانت فاغنر تعمل كشبكة شبه عسكرية خاصة تُدار عبر علاقات معقدة بين الكرملين والقطاع الخاص، فإن “فيلق أفريقيا” بات تحت إشراف رسمي مباشر من الدولة الروسية، وتحديدًا من وزارة الدفاع، ويخضع لضوابط عسكرية وتنظيمية واضحة.
في مالي، حيث مثّل وجود فاجنر تحولًا جذريًا في العلاقة مع موسكو بعد خروج القوات الفرنسية، حلّ “فيلق أفريقيا” محل المجموعة السابقة في تقديم التدريب العسكري للجيش المالي، وتوفير الدعم الاستخباراتي، والمشاركة في عمليات ميدانية ضد الجماعات الجهادية. وتشير التقارير إلى أن أعضاء الفيلق، ومعظمهم من قدامى مقاتلي فاغنر، أعيد تأهيلهم ضمن منظومة وزارة الدفاع الروسية، مع الحفاظ على بعض التكتيكات الخاصة التي عُرفت بها المجموعة السابقة، من بينها العمليات عالية الكثافة في البيئات الوعرة والعمل خارج النمط التقليدي للقوات النظامية.
التحول من “فاجنر” إلى “فيلق أفريقيا” لم يكن مجرد استبدال للاسم، بل يُمثّل إعادة تموضع لروسيا في أفريقيا بعد أزمة داخلية كادت تُفقدها أهم أدواتها غير التقليدية للنفوذ في القارة. فاغنر، رغم الاتهامات الخطيرة الموجهة إليها بارتكاب انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان ومالي، نجحت في التغلغل داخل مؤسسات أمنية وعسكرية عديدة، بل وشكّلت قوة سياسية واقتصادية في بعض الأحيان، من خلال السيطرة على مناجم ذهب أو المساهمة في تأمين كبار المسؤولين.
لكن مع مقتل بريغوجين في أغسطس 2023، وموجة التفكك التي أصابت هيكل المجموعة، أدركت موسكو أن استمرارية النفوذ تتطلب أداة أكثر انضباطًا وأقل إثارة للجدل. فجاء “فيلق أفريقيا” ليقدّم الواجهة المؤسسية لهذا النفوذ، بغطاء رسمي وشرعية قانونية، ما يسمح بتوسيع نطاق التعاون مع حكومات تبحث عن بديل للشركاء الغربيين، لا سيما في ظل التوترات المتصاعدة بين الغرب وعدد من الأنظمة العسكرية في إفريقيا.
الانتقال إلى “الفيلق” جاء متزامنًا مع تصاعد التحالف بين دول الساحل وروسيا، ضمن توجهات إقليمية تسعى إلى تقليص النفوذ الفرنسي والأوروبي في المنطقة، وهو ما يتجسد في اتفاقيات ثنائية عديدة تشمل التعاون العسكري والتقني والاستخباراتي. ويُتوقع أن يكون للفيلق دور محوري في تعزيز هذا التحالف الجديد، مستفيدًا من خبرات فاغنر، ولكن ضمن إطار دولة ذات سيادة تسعى إلى تقديم نفسها كحليف موثوق و”نظيف” في المعادلة الإفريقية.
ومع ذلك، لا تزال هناك تساؤلات بشأن سلوك “فيلق أفريقيا” في الميدان، ومدى التزامه بالقانون الدولي، خاصة في ظل إرث فاغنر الثقيل وارتباط عدد من عناصر الفيلق بسجلات عملياتية سابقة أثارت جدلًا واسعًا. يبقى السؤال المطروح: هل يمثل “فيلق أفريقيا” تحولًا حقيقيًا نحو الشفافية والانضباط، أم أنه مجرد إعادة تدوير للأداة نفسها تحت لافتة جديدة؟ الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن روسيا وجدت لنفسها موطئ قدم جديد في إفريقيا لن تتخلى عنه بسهولة.