فضلاً عن كون الصدق فضيلة انسانية، فهو ضرورة أخلاقية لا سيما في لحظات الأزمات الوطنية الكبرى حين تتباين الرؤى وتشتد الحاجة إلى بناء الثقة وتجسير المسافات بين الفرقاء. ولا يمكن لذلك أن يتحقق ما لم تستند الرؤى المختلفة، والتعبير عنها، على قاعدة راسخة من الصدق.
وفي ظل ما يعيشه السودان من أزمة خانقة، تصبح مطالبة جميع الفاعلين في المشهد الوطني بالتحلي بهذه القيمة الأخلاقية شرطاً لازماً لعبور الأزمة.
أعلن رئيس الوزراء المُعيّن عن تعيين خمسة وزراء من منسوبي بعض الأطراف الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان.
ولسنا هنا بصدد الحديث حول كفاءة هؤلاء الوزراء أو أحقية تنظيماتهم – بالوزارات – من بين سائر التنظيمات الموقعة على مسارات الاتفاق، لكننا بصدد التعليق على تصريح رئيس الوزراء المُعيّن الذي قال فيه: “هذه التعيينات جاءت عقب دراسة دقيقة للكفاءات والخبرات الوطنية” .. فقد جاء هذا التصريح مجافياً للحقيقة وعارياً من فضيلة الصدق.
لم يكن تَوَلِّي الوزارات الخمس متاحاً لكافة الكفاءات والخبرات السودانية حتى تتم “دراسة دقيقة”، كما قال السيد رئيس الوزراء المُعيّن.
فالقاصي والداني يعلم أن الأطراف النافذة في اتفاق جوبا تمسكت علناً – ليس فقط بنسبة مشاركتها، في الحكومة، التي حددها الاتفاق – وإنما بذات الوزارات التي آلت إليها بالتوافق مع قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري بعد التوقيع على الاتفاق، كما تمسكت بأن يكون لها الحق في تسمية شاغلي تلك الوزارات، وهو ما أكده رئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي حين قال متحدياً: “ما عندنا مرشحين بترفضوا”، وذلك رَدّاً على تسريبات أفادت بعدم اجتياز مرشحه لوزارة المعادن للفحص الأمني.
كان الأجدر برئيس الوزراء المُعيّن أن ينحاز إلى فضيلة الصدق، وأن يلتزم بالشفافية – التي وعد بها بعيد أدائه القسم – ويقول إن هذه التعيينات هي جزء من التزامات اتفاق جوبا وأنه وافق على إعطاء الموقعين على الاتفاق نفس الوزارات التي كانوا يشغلونها، وعلى إعطائهم حق تحديد أسماء الوزراء، بدلاً من الإدلاء بتصريح يفتقر للمصداقية ويُصَوِّر الأمر وكأنه نتاج مسار مهني خالص.
وبالمثل، فإن الصدق والشفافية واحترام وعي الشعب تحتم على رئيس الوزراء المُعيّن توضيح سبب اختباره لعضو بحزب المؤتمر الوطني وزيراً للعدل، رغم تعهده العلني بعدم تعيين حزبيين، وتأكيده على الوقوف على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية. الأمر الذي يترك أسئلةً تحتاج لإجابات: هل تخلّى عن تعهده؟ أم فُرِص عليه التخلي عنه؟ أم أنه لم يجد بين عموم السودانيين والسودانيات من يتمتع بالكفاءة لتولي وزارة العدل غير أحد مسؤولي النظام الذي أسقطته ثورة ديسمبر المجيدة؟!
ليست غايتنا من هذه الملاحظات المناكفة أو التهكم على طريقة تشكيل ما يُسْمّى بـ “حكومة الأمل”، بل دفاعاً عن فضيلة الصدق التي تمثل مطلباً ضرورياً لتغلب المجتمعات على أزماتها، وركيزة لصناعة الأمل الحقيقي.
فالأولوية الآن – في تقديرنا – ليست لتشكيل حكومة وحكومة موازية تتنازعان تمثيل الشرعية، بل لإيقاف الحرب ومعالجة الكارثة الإنسانية واعتماد خيار الحل السياسي السلمي الذي يحافظ على وحدة البلاد ويستعيد الشرعية بالتوافق ويُوحِّد إرادة السودانيين ويحشد طاقاتهم لبناء وطني جديد.