في زحمة الحياة وتدافع الأيام، قد يغيب عنّا أحيانًا أصدقاء لم يكن حضورهم مجرد تواجد، بل كان نبعًا من الدفء والإنسانية، حاملةً أرواحهم نبض الوطن وشذى الألفة. هذا ما كان عليه القدال، ذاك الإنسان الذي لم يكن مجرد صديق، بل كان تجسيدًا حيًا لمشاعر الانتماء، ونبضًا لذكرياتٍ ترفض أن تُمحى من ذاكرة الزمن.
في سنواتي الأولى في دبي، حين كان ضجيج الغربة يثقل كاهلي، قابلت القدال، ذلك القلب الكبير، الذي بمحبته وروحه الصافية، أعادني إلى دفء السودان، إلى إحساسٍ يشبه حضن الوطن، حيث الأرواح شفافة والقلوب صافية. لم يكن مجرد لقاء عابر، بل كان ميلاد تواصل إنساني يزهر بين روحين اشتاقتا إلى وطنهما.
كان بمثابة الجسر الذي ربطني بأرض الوطن وبذكرياته الجميلة. رافقني في دروب كثيرة، جلسات طويلة بين الشارقة ودبي، وحديث ممتع يتنفس حكايا الوطن وأحلامه، وبين “مناقيش الجبنة الحارة” التي كانت له ذكريات خاصة معها.
كانت عودته إلى السودان قرارًا شجاعًا ينبع من حبٍ عميق للأرض التي يحملها في قلبه، رغم الاستقرار الوظيفي الذي تركه خلفه. أما أنا، فظلت أغترابًا في زحمة المدينة وأضواءها، لكن القدال كان دائمًا مصدر إلهام، دعوة لي بأن لا أنسى جذوري مهما طال البعد.
لم تكن زياراتي له كثيرة، لكنها كانت كافية لتُحيي الروح، وخصوصًا حين وقف أمام منصة تدشين كتبي، يقرأ من أعماقه قصيدة “أنا ما بجيب سيرة الجنوب”، وكانت لحظة ذات معنى خاص، ترابط بين قلبين يحملان الوطن شماله وجنوبه في نبضهما.
وفي لقائنا الأخير في مكتبه بالسودان، حيث صنع لنا الشاي بأناقته وبساطته، وفي حديث خفيف عن أيام الغربة و”الجنبة الحارة”، شعرت بأنني أمام إنسان عميق لم تحجبه أروقة الحياة ولا ضجيجها، بل ظل كما هو، صادقًا مع ذاته ووطنه.
لكن الحياة ليست سوى رحلة، والقدر أحيانًا يسرق من بين أيدينا الأحبة قبل أن نودعهم وداعًا كافيًا. حين غاب القدال، كان غيابه أشبه بفراغ في القلب، بظلال سوداء على أيامنا. بحثت عنه في كل مكان، في مكتب الأدب وفي ممرات الذكريات، ولم أجده إلا في طيفه الذي لا يفارقني.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لكن الذكرى تبقى، والحب لا يموت. فالقدال ليس فقط ذلك الرجل الذي عرفته، بل هو روح الوطن التي تستمر فينا، نبض الحنين الذي لا ينقطع.
اليوم، ونحن في ذكرى رحيله الخامسة، أقول له في خلدي: لقد أحببناك، وسيظل حبك يغذي وجداننا، وستظل في ظل الرحمن، حيث تعانق أرواحنا جميعها، وطنًا واحدًا لا يموت.
الوفاء لمن تركوا أثراً لا يُمحى، ولكل روح حملت الوطن في القلب مهما بعدت المسافات.