الحنان فن الإنسانية عند منعم رحمة 

حامد بخيت الشريف 

يقدم منعم رحمة في نص (سَمهَان يُولِج الخيطَ فِى إِبرتهِا) تصورًا إنسانيًا عميقًا للعلاقة بين شخصيتين هما “سَمهَان” و”سَمهَانه”، ويعتمد على تصوير يومياتهما ضمن إطار من العناية والاهتمام الموجه بعاطفة قوية ومدروسة. يتميز السرد بدقة ملاحظة التفاصيل اليومية التي تشكل حياة “سَمهَان”، والطريقة التي تدير بها “سَمهَانه” هذه التفاصيل ببراعة ووعي كامل باحتياجاته الخاصة.

ما يلفت النظر في البناء السردي هو استخدام الإيقاع وتكرار الجمل بوصفها أدوات لتهدئة التوتر، وتعزيز الإحساس بالاستمرارية والاحتواء كما يظهر ذلك من خلال سلوكيات يومية واضحة، مثل مراقبة حركة المواصلات، تنظيم النوم والطعام، ومتابعة الكادر التعليمي المرافق لـ”سَمهَان”. 

كل هذه العناصر تُعبّر عن إدارة دقيقة للحياة، تخلق نظامًا خاصًا يشعر فيه الطفل بالأمان ويجد فيه استجابة فورية لأي اضطراب يعيشه.

ولعل من ميزات النص انه يظهر الفروق السلوكية أو الإدراكية باعتبارها جزءًا من شخصية متكاملة لها طريقتها في التفاعل مع العالم. 

ومن خلال هذا التقديم، يدعو النص إلى فهم الاختلاف ضمن سياق واقعي وعاطفي، يتطلب قدرا عاليا من الوعي والاهتمام، كأنما يريد منعم ( جلابه) ان يلفت انتباهنا الى اختلالات واعتلالات لازمت انماط التربية ووجب اعادة النظر فيها فضلا عن انه ومن خلال استخدام الأسماء، الأماكن، وطقوس الحياة اليومية قد منحنا كقراء فرصة لتكوين صورة واضحة عن عالم “سَمهَان وجعنا ننظر الى الجهد المبذول من “سَمهَانه” في سبيل ضمان استقرار(سمهان) النفسي والوجداني كأنه يُؤسس لقيمة جوهريةوهي أن الحب في تجلياته الأعلى انما هو التزامًا معرفيًا وسلوكيًا، وليس فقط مشاعر عابره. 

خلاصه قولي المتعجل هذا أن بنية النص تبدو منسجمة مع غايته، فالبنية الزمنية فيه تعتمد على الرتابة المحببة التي تصنع طقوسًا يومية متكررة، دون أن تشعر القارئ بالملل انما تخلق شعورًا بأن لكل تفصيلة دورًا واضحًا في صياغة العلاقة بين الطرفين.

هذا النص فتح عندي نافذة على واقع يحتاج إلى مشاركة في الصمت والحركة، في إدارة المفاجآت والانفعالات، وفي بناء مساحة من الطمأنينة التي تحفظ الطفل وتدعمه

شكرا يا منعم رحمة ، يا جلابة ، يا سلطامون ، يا ودأمو 

النص : 

سَمهَان يُولِج الخيطَ فِى إِبرتهِا 

مقبلة مُدبرة يُسمع رفيف أجنحتها و شذى صمتها الفواح ، مهموسة الخُطى ، مدوزنة القوام ، حيية عفيّه كما زهرة تتحلّب ندىً فى فم فراشة. 

الكلُ يُحبها و يحذر غَضب عينيها ، خاصة عندما يتعلق الأمرُ به ، فهي تتحدث بلسانه ، و تحسُ بأشواق عضله و ّتململ فؤاده ، لا تسبقه بالقول و لا يزعجها حديثه و إن طال و لا صمته و إن إستطال و غلظ. 

لقد بات معلوماً لذوى الأرحام و الصلات ، بأنها لا تذهب إلى أيةِ حفلة عيد ميلاد أو رحلةٍ خلويةٍ إِن لم يدعوهما إليها معاً ، و يقبلوا وجوده ، و غريب طبعه ، كما و كذلك ألا يُحرجوا عليه ، يزعجوا سكونه و حركته بالأسئلة و الشفقة البلهاء.

تكبره بعقلها و يصغرها بعامٍ واحدٍ فقط . تشع من أردانها وداعة تحرسها من الشرور و رفث العيون و اللسان . تضئ وجهها غمازتان مغردتان ، بضفيرتين طويلتين تماشطهما كلما إشتد صراخ سَمهَان ، و هي تردد فى صوتٍ واثقٍ ، حاسم وعذبٍ فى آن :

سَمهَان كفى … كفى ، كفى ، كفى. 

كلما إرتفع صوتها إنخفض صوته ، زال غضبه و راق .

سَمهَانه تأكل و تشربُ معه ، تلاعبه و لا يهدأ لها بال حتى تسمعه و بصوته المفارق يُغنِّها :

بَلييدِّك سّموووو ، بَلييدِّك كاااك .. كاااك . أي أُحبك سَمهَانه أُحبك. 

لا تنام إلا من بعد أن تكون قد أضجعته فى مرقده ، إذ أنه – و كثيراً ما يحدث – أن يسقط نائماً ، أو جالساً و الّلقمة فى طريقها إلى فمه ، أو تتخطّفه الملائكةُ فى منتصف جملة أو صرخة أو لعبةٍ فينهد من طوله و ينام. 

تزيح كل ما من شأنه أن ينكسر أو يجرحه عن طريقه ، تؤمن كل وصلات الكهرباء ، أنابيب الغاز و المياه جاعلةً سريره إلى الحائط لصق سريرها ، حتى تحس به إن إستيقظ ليلاً لأي غرضٍ من الأغراض ، و من بعدِ كامل الإطمئنان إلى أن الأمن قد أمسى مستتباً ، و أن الأحلام قد بدأت تلون تقاطيع وجهه النحيل و تُرخى وترته ، و تمازِح شفتيه فراً و طيّا. 

من بعد ذلك كله و بعزم أنبياء ، تفتح حقيبتها الصغيرة لتستخرج كتاباً لكاتبٍ مفضلاً لديها أو سمعت به ، و لمدة ساعةٍ على الأقل ، تظلُ تقرأ .. و من ثّم تقبله قبلة خفيفة على خده و تطفئ النور متنهدة ..

– يااللااه ليييه كده بس .. ليييه ؟

تشقى كثيراً عندما يتركونه يعب المشروبات عالية السُكّر ، إذ ينعكس ذلك فى نشاطٍ زائدٍ و حائر ، فيقوم يجمعُ كل سكاكين الطعام ويظل يُبردها ( كَرّج .. كرّج) ، و لا يبرُد همه حتى تضمه بقوةٍ إلى صدرها ، تهدهده ، تناغيه و هي تردد جملتها السجرية :     

سَمهَان كفى … كفى ، كفى ، كفى ..

و هما معاً أو مع الآخرين يبدوان كشجرتين مدهامتين من حنوٍ و صفاء ، كظلين من أعنابٍ و نخيل إنسربا من حائط جنةٍ ما ، و أفاضا على السابلة من طيِّبِ الثمرات و النسمات. 

هي لا تمِل من الإحاطة به كتفاً و خصرا فى الشارع الضجيج و الزحام. 

هو لا يملُ من رصد حركة المواصلات و هو يحدق فى خارطة صغيرة لا تفارقه ، دارساً لخطوط سيرها و تقاطعاتها مع مواقيت إنطلاقها ، و المسافات الزمنية بين محطةٍ و أخرى . فى الشارع و أثناء سيره مع أسرته أو مُدرسته تجده يُكثر من التلفتِ و إلتقاط العلامات ، الإشارات ، أسماء المحلات التجارية و كل المناظر حتى أوجه الناس ، أنواع الأشجار ، الأزهار و المركبات. 

فقط يكون الأمرُ بالغ التعقيد إذا و لأي سببٍ غيرت المتروهات ، التراماتِ ، البصات خطِ سيرها أو ميقات وصولها ، تأتى ردة فعله عنيفةً و ضاجةً ، فإن كنتم راجلين توقف دفعة واحدةً كما عربةٍ أصابها العطب فجأة أو نفد وقودها ، أو كما إنقطاع التيار الكهربائي فى كامل المدينة ، و من ثم يرتجف جسمه و يأخذ فى الصراخ أو الطرق على أي شئٍ أمامه ، لتأتى الجملة السحرية و سَمهانه تحلُ و تغزل ضفيرتيها واحدةً بعد الأخرى :- سَمهَان كفى … كفى ، كفى ، كفى. 

يعلو صوتها ، يتلطف صوته ، و إستفهام كبيرٌ يتغشى ذلك الوجه النحيل كما غيمة من دُخان . يتأتئُ قليلاً كثيراً و هو يقول :- نوو نوو ، مااا حنصل تُّلو تُّلو ( لا، لا لن نصل أبداً ، ليس هذا هو الطريق) ماااااا دّه ، ما دّه ؟

تضغط على يده بدأبِ نحلة يثقلها الرحيق :- بس بس سَمهَان بس عايزنهم ما يشوفونا ، و نعمل ليهم بالونه طَرشقت ، طااااق يالله مفااجأة .. هي ها ههههه ، مش ياا سَمهُونتِى .و تضحك ، تضحك معها السموات و الأرضين ، تضل الفراشات طريقها إلى فم الأزاهر لِتتسقط رزاز ضحكتها و نبر صوتها. 

فى كل يوم تفعل ذلك و تجتمعُ إلى (كاست المعلمين و المعلمات) المُتعاقد معهم لرفقته ، عندما تكون هي بعيدة فى مدرستها ، تراجع معهم تفاصيل يومهم ، مزودةً لهم بنصائحها و ملاحظاتها لليوم التالى ، لا تترك شيئاً للصدفة و بقدر الإمكان ، إذ أنها تحفظ طبائعه و أخلاطه عن ظهر غيب. 

والكاست مُكلٌف و متخصص . منهن من ترافقه إلى الروضة و تلازمه فيها حتى تأتى به راجعة إلى المنزل . منهم من يذهب معه إلى المطاعم و يعلمه كيفية الطلب و كيفية الدفع ، و لكنه و دائماً ما يفاجئهم ، و قد حفظ (المينيو) بصفحاته الأربعة ، و فى كل مطعم يذهبون إليه. 

يا سَمهَان ، مطعم لاسوليل (Le soleil الشمس) فيهو شنو ؟

و تأتيهم قائمة الطعام ، و من عجبٍ ، و بصوت نادل ذلك المطعم. 

سَمهَان دايره أمشى كبرى الطِبل أركب شنو ؟

(كبرى الطّبل حيث يغلق العشاق طبلهم في سياج الكبرى ، و يقذفون بالمفاتيح الى عمق نهر السين ، قاصدين من ذلك ان يدوم حبهم و يظلوا معاً) . و هذا ما تتمناه سَمهانه لنفسها و سمهان. 

ويدور الشريط و يرتفع الصوت الآلي :- أتّاسيون سِّلفو بلى(attention S’il vous plaît) .. أي نرجو الإنتباه ، من فضلكم ! محطة نوتردام مغلقة لحريق شّب فيها ، نرجو التحول إلى المحطة التى قبلها أو بعدها. 

سَمهَان بيت ناس حبوبه بى وين ؟- سَمهَان .. سَمهَان ..

تتوالى و تتقاطر الأسئلة ، و تأتى الإجابات دقيقة كما دقات أجراس كاتدرائية نوتردام قبل الحريق ، لا تخطئ نغمة و لا توقيتا .نما الجسدُ مخلفاً العقل خلفه لدى سَمهَان و التنورُ فار ، أزهرت سَمهَانه ، و الطينُ المسنون حنّ و اشتهى .لا خِيار ، لا فكاك ، لا مناص . يستيقظُ فى الفجر باكياً و مرتعباً ، و وحدها سَمهَانه من تفكُ شفرة جسده ، تفهمه ، تدثّره و تُزمله ، و وحده سَمهَان من يُولج الّليل فى النهار ، و الخيط فى إبرتها.

Exit mobile version