ميلاد الظل
وُلد أحمد هارون في إحدى قرى كردفان التي لا تحفظ أسماءها الخرائط، بل تحفظها الرياح والأشواق الغامضة في صدور الأمهات.
هناك، على حواف التلال، كانت الحكايات تُروى أكثر مما تُكتب، وكان الليل معلّقًا بين صمت المذياع ودخان الحطب.
سافر إلى القاهرة، لا ليبحث عن غدٍ آخر، بل ليجمع أدواته. درس القانون، لكنه لم يكن معنيًا بروحه، بل بكيفية تطويعه، كأنما كان يحفظ المتون لا ليصون العدالة، بل ليُخفيها تحت معاطف السلطة.
كان طالبًا يعبر بهدوء، لكنه يخزّن في داخله مشروعًا صاخبًا، هشيمًا مستعدًا للاشتعال.
أجنحة الدولة
عاد إلى الخرطوم مثل ظلٍ طويلٍ خرج من رحم الإنقاذ، لا يترك أثرًا واضحًا في البدء، لكنه يزداد قتامة كلما اقترب من المركز.
عُيّن وزير دولة بوزارة الداخلية، لا لأنه رجل أمن، بل لأنه رجل الدولة حين تقرر أن تُغلق الأبواب وتُطفئ المصابيح.
تمدد داخل أجهزة السلطة كما يتمدد الحبر على الورق المبلول، بلا صوت، بلا إشعار، حتى صار هواء بعض الغرف لا يُستنشَق دونه.
في داخليته، لم يكن يأمر فحسب، بل كان ينسج الفكرة، يزرع الرعب كمن يزرع الورد، يتقن الحسم، ويُهندس الخوف. كان يرى في القانون أداة طيعة، وفي الناس ملفات، وفي الخوف رأس مالٍ قابل للتداول السياسي.
ميلاد النار
وحين اشتعلت دارفور، لم يكن بحاجة للشرح.
كان يفهم تمامًا معنى أن تُفتح السماء فوق القرى، لا لتُمطر، بل لتُسقط رجالًا مدججين بالفوضى.
لم يُرسل جنودًا، بل أطلق الجنجويد: مليشيات لا تعرف الزي الرسمي، ولا تعترف بالشرف العسكري. رجالٌ يأتون على صهوة الجنون، ويُغادرون على أنقاض الأراوح المتهشمة .
كان هارون عرّاب هذه المعادلة، مهندس الفوضى المحسوبة، الذي يربط بين القبيلة والبندقية، بين السلطة والنار، بين الدولة وشيطانها.
لم يكن على أطراف المشهد، بل في لبّه.
لم يكن شاهدًا، بل صانعًا.
وجه المأساة
ثم جاء زمن السخرية السوداء، فأسندت إليه حكومة البشير ملف “الشؤون الإنسانية”.
الرجل الذي أدار ماكينة الحريق صار مسؤولًا عن الإغاثة.
كأنما قيل للقاتل: “اعقد صلحًا مع ضحاياك”،
أو قيل للثعبان: “الْبَسْ رداء الطبيب”.
صار هارون يوزّع الخيام على من شرّدهم، يوقّع على حصص الغذاء لمن سُرقت مواسمهم، ويبتسم في مؤتمرات المانحين، كأنه لم يشهد القرى وهي تلتهمها النار، ولم يسمع صراخ الأمهات حين اختفى أولادهنّ تحت سنابك الموت.
صوت الرماد
ثم صعد من غبار الحرب صوتٌ قديم.
من مخبئه في شمال السودان، بلا كهرباء، بلا ماء، بلا ضوء، خرج هارون إلى العلن عبر وكالة رويترز.
وجهه كما هو، لكن الزمن تغيّر.
قال ببساطة من لا يخجل: “سنعبر إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع”.
كأن الصناديق لا تحمل بين طيّاتها أنين المغدورين، كأنّ الانتخابات تمحو الدم، وتغسل الجرائم، وتعيد ترتيب صورة الجلاد على هيئة قائد.
لم يكن يتحدث كمن يخشى، بل كمن اعتاد الإفلات.
كائن الغياب
هارون ليس سياسيًا، بل وثيقة متحركة لحقبة رعب.
يمشي، لكن وراءه آلاف القبور، ووراء كل قبر، صرخة لم تجد لسانًا.
إنه تجسيد لفكرة: أن الدولة حين تُصاب في ضميرها، تلد أبناءً لا يحكمون، بل يُعاقبون البلاد باسم القانون.
هو لا ينتمي لزمننا، بل لزمنٍ يرفض أن يموت.
هو جملة اعتراضية في تاريخٍ كان يمكن أن يكون أجمل، لكنه كُتب بالحبر الأسود، وبالرماد.
لا ختام لهذا الوجه.
لا مكان له في رواية شعبٍ يريد أن يكتب بدم الشهداء دستورًا جديدًا. لكنه حاضر كندبة في جبين الوطن، وككابوسٍ في نوم الناجين.
هارون ليس نهاية فصل، بل نهاية براءة.
وحين يتحدث عن العودة، لا يتحدث عن برنامج سياسي، بل عن إكمال مشروع لم ينتهِ:مشروع القهر، والمحو، والتاريخ الذي لا يُروى… بل يُهمس به في المقابر.