مآب الميرغني
ود مدني، 26 يوليو 2025، (جبراكة نيوز)-
يعيش القطاع الزراعي في مشروع امتداد المناقل بولاية الجزيرة مرحلة حرجة تهدد استمراريته في ظل تفاقم تداعيات الحرب وتراجع البنية التحتية، وسط غياب تام للدعم الحكومي والمصرفي.
وعبّر مزارعون عن واقعٍ مؤلمٍ يتجسد في الزيادة الكبيرة في أسعار المدخلات، وانعدام التمويل، وانهيار نظم الري، ما أدى إلى تدهور الإنتاج وتناقص المساحات المزروعة بشكل مقلق.
التحول القسري عن القمح
المزارع مصطفى، من منطقة شرق الجزيرة، عبّر عن خيبة أمله بعد اضطراره إلى التخلي عن زراعة القمح، التي كان يعتمد عليها، والاتجاه إلى زراعة الخضروات بعد اندلاع الحرب.
وأوضح أن هذا التحول جاء نتيجة لانعدام السماد والتقاوي، وغياب أي دعم رسمي، رغم استمرار معاناته من فشل المواسم السابقة.
وأضاف في حديثه لـ”جبراكة نيوز”: “لا توجد إحصاءات دقيقة للمساحات المزروعة سواء في العروة الشتوية أو الصيفية، لكنها تراجعت بشكل ملحوظ”.
وأكد مصطفى أن مشروع الجزيرة – رغم ما لحق به من دمار– لا يزال قادرا على تحقيق إنتاجية عالية تسد حاجة البلاد إذا توفرت المستلزمات الأساسية.
وناشد الجهات المعنية بالإسراع في تنظيف الحشائش من الترع، وتوفير الطلمبات والأسمدة، إلى جانب تأمين التمويل اللازم لمرحلة التحضير، حتى يتمكن المزارعون من الدخول في الموسم الجديد باستعداد كامل.
إنتاجية منهارة وغياب تام للإدارة.
من جهته، أشار المزارع عمر النعمة أرباب، من مكتب منطقة الكويت في قسم الشوال بمشروع امتداد المناقل، إلى تدهور الإنتاجية بعد اجتياح مدينة ود مدني من قبل قوات الدعم السريع، مشيرا إلى أن المحاصيل الرئيسية، مثل الفول، الذرة، والقمح كانت تحقق إنتاجية عالية قبل ذلك.
وأوضح أن إنتاجية الفول كانت تصل إلى 30 جوالا للفدان، بينما بلغ متوسط إنتاجية الذرة والقمح 12 جوالا للفدان.
وقال أرباب لـ”جبراكة نيوز”: “كنا نحصل على التقاوى والأسمدة بنظام البيع الآجل والسداد بعد الحصاد، وهو ما توقف منذ اجتياح ود مدني أواخر 2023. حتى قبل ذلك كانت المدخلات الزراعية تصل متأخرة، ما يؤثر على توقيت الزراعة وكفاءتها”.
وأضاف أن ارتفاع أسعار المدخلات، وانقطاع المياه أو عدم انتظامها، سبّبا فيضانات أدت إلى غرق المحاصيل، لاسيما في العام الماضي. ورغم تحرير ود مدني هذا العام، لا تزال عملية التحضير والزراعة تسير ببطء شديد، بسبب امتلاء الترع بالقاذورات والحشائش، وعدم تنظيفها، بالإضافة إلى وجود كسور في القنوات تهدد أراضي (مكتب الكويت) بالغرق.
ولفت أرباب إلى أن أسعار البذور والأسمدة أصبحت بعيدة عن متناول مزارع الكفاف، في ظل غياب أي جهة تتكفل بتوفيرها.
وقال إن الوقود متوفر، لكن الآليات – وخاصة الحفارات وآليات تنظيف الترع و”أب عشرينات” – غير متاحة، أو أن أسعارها مرتفعة جدا إذا توفرت.
وأشار إلى أن الإدارة الزراعية “غائبة أو متعامية”، وقال إنه لا يوجد أي دور محسوس للحكومة في ولاية الجزيرة، ما دفع العديد من المزارعين إلى ترك الزراعة، إذ عمد بعضهم إلى تأجير الأرض، فيما تركها آخرون بُورا.
ورغم هذا الواقع القاتم، أبدى أرباب شيئا من التفاؤل، مشيرا إلى أن الأمل لا يزال قائما إذا توفرت الإرادة. واقترح البدء بإصلاح كسور القنوات والترع، وتوفير التقاوي والأسمدة للعروة الشتوية، مشددا على ضرورة البدء الفوري في ذلك قبل دخول فصل الخريف. كما أشار إلى الغياب التام لأي دور يُذكر للأجسام النقابية مثل (تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل) في الوقت الراهن.
ثلاثة مواسم بلا حصاد
المزارع السابق بمنطقة الجزيرة، حسين سعد، وعضو تحالف المزارعين بالجزيرة والمناقل، ألقى هو الآخر الضوء على عمق الأزمة، مؤكدا أن الأوضاع في زمن السلم كانت أفضل بكثير.
وقال لـ”جبراكة نيوز”: “قبل الحرب، كان سعر شوال السماد لا يتجاوز 20 ألف جنيه، أما الآن فقد قفز إلى 120 ألف جنيه. وتكلفة تحضير الفدان الواحد بالجرارات ارتفعت من أقل من 10 آلاف جنيه إلى نحو 30 ألف جنيه”.
وأشار سعد إلى أن المساحات المزروعة في العروة الصيفية كانت تتجاوز 500 ألف فدان، و250 إلى 300 ألف فدان في العروة الشتوية، أما اليوم فبات من غير المرجح أن تتجاوز المساحات المزروعة في العروة الصيفية هذا العام 150 ألف فدان.
وتحدث حسين عن آخر موسم جيد، الذي صادف فترة الحكومة الانتقالية (أغسطس 2019- أكتوبر 2021)، حينما أنتج المزارعون حصيلة وافرة من القمح وأهدوها للبنك الزراعي كهدية رمزية دعما للمرحلة الجديدة، في ظل علاقة جيدة وقتها مع البنك، الذي كان يموّل المزارعين ويمنحهم التسهيلات اللازمة.
أما اليوم، فقد تغير كل شيء – حسب قوله – إذ لم يعد البنك يقدم أي دعم، خاصة في الجزء الشمالي من المشروع، حيث تم نهبه بالكامل في مناطق الكاملين والمعيلق وأب عشر، وسرقت جوالات الذرة والملح المخصصة للمزارعين، وتوقّف التمويل تماما.
وأضاف: “لم أتمكن من زراعة أرضي هذا العام بسبب نقص المياه، ونحن الآن نواجه ثالث موسم منذ اندلاع الحرب دون حصاد”. ولفت إلى غياب البذور والأسمدة أو ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، إلى جانب التكاليف الباهظة لعمليات التحضير التي أثقلت كاهل المزارعين.
ابتزازات أمنية وتدهور تشريعي
أشار سعد إلى تعرض المزارعين لابتزازات مباشرة، حيث طلبت (قوات الدعم السريع) منهم دفع 60 ألف جنيه كـ”رسوم حصاد”، كما فرضت غرامات وصلت إلى مليون و750 ألف جنيه على بعض أقاربه.
وتحدث عن تدمير ونهب مكتب الزراعي بالمعيلق بالكامل، مؤكدا أن السياسات التي أُقرت في عهد النظام السابق لعبت دورا كبيرا في تقليص دور المزارعين، بل وزجّت ببعضهم في السجون.
وقال إن تغييرات إدارية أُجريت سابقا نقلت سلطة الري من إدارتها الأصلية إلى إدارة أخرى، ما تسبب في إشكالات كبيرة في نظام الترع والقنوات، وأدى إلى تدهور منظومة الإنتاجية، التقاوي، والمبيدات.
وأكد سعد أن (تحالف المزارعين) ظل يصدر بيانات متكررة لتنبيه السلطات إلى حجم الكارثة، لكن دون استجابة تُذكر، مشيرا إلى أن العديد من المزارعين تركوا الزراعة بسبب التكاليف الباهظة، واتجهوا إلى مهن بديلة.
ويؤكد حسين أنه لا يمكن التعويل على زراعة ناجحة في المشروع في ظل استمرار الحرب، لكنه شدد، في المقابل، على ضرورة أن تتجه المنظمات المحلية والدولية إلى دعم المزارعين بشكل مباشر، عبر غرف الطوارئ، بعيدا عن الحكومة، مؤكدا أن ذلك وحده كفيل بتمكين المزارعين من استعادة نشاطهم والإنتاج مجددا.
مستقبل غامض
يشير فاروق البدوي، عضو سكرتارية تحالف مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل، إلى تدهور مقلق في الوضع الزراعي بالمشروع بسبب الحرب والسياسات الاقتصادية الخاطئة التي سبقتها.
وقال البدوي إن الزراعة في المشروع كانت قبل الحرب تعمل بكفاءة تصل إلى 100%، لكنها تراجعت إلى نحو 45% فقط بعد اندلاع الحرب، خاصة في المناطق الواقعة تحت سيطرة (قوات الدعم السريع)، التي تعاني من غياب التمويل وانعدام الأمن.
وأشار إلى أن آخر موسم زراعي ناجح كان في (2019–2020)، إبان حكومة الثورة برئاسة عبد الله حمدوك، حيث تمت زراعة 500 ألف فدان من القمح بتمويل من البنك الزراعي، وبلغ متوسط إنتاج الفدان 17 جوالا، مع تسجيل بعض الحقول لإنتاجية قياسية وصلت إلى 35 جوالا.
لكن في المواسم اللاحقة، شهد الإنتاج تراجعا كبيرا نتيجة ما وصفه بسياسات “غير داعمة للمزارع” تبنتها وزارة المالية والوزير جبريل إبراهيم، أبرزها التراجع عن الالتزام بسعر التركيز، وعدم انتظام التمويل الزراعي، ما دفع آلاف المزارعين نحو ديون ثقيلة يلاحقهم بها البنك الزراعي حتى اليوم.
ومع الحرب، خرج المزارعون من أربعة مواسم زراعية متتالية، في ظل عجز الدولة عن توفير الكراكات اللازمة لتطهير قنوات الري وإصلاح الأضرار التي خلفها النزاع، إضافة إلى تأخر وصول المياه لمناطق واسعة في المشروع، رغم وعود إدارة الري.
وأكد البدوي أن التكاليف الباهظة أصبحت خارج قدرة المزارع المنهك: “تحضير الفدان يكلف 150 ألف جنيه، سعر جوال اليوريا 100 ألف، والداي يتجاوز 120 ألف، بينما المزارع فقد معداته بسبب النهب”، مشيرا إلى أن غياب التمويل، وتأخر موسم الزراعة الرسمي الذي تحدده البحوث الزراعية، يعقد فرص نجاح الموسم الحالي.
ينشر منتدى الإعلام السوداني والمؤسسات الأعضاء فيه هذه المادة من إعداد (جبراكة نيوز) لتعكس واقع الزراعة والمجتمع الزراعي في مشروع الجزيرة. في هذه المادة يشير المزارعون إلى واقعٍ مؤلمٍ يتجسد في الزيادة الكبيرة في أسعار المدخلات، وانعدام التمويل، وانهيار نظم الري، ما أدى إلى تدهور الإنتاج وتناقص المساحات المزروعة بشكل مقلق.