في كل موجة ثقافية جديدة، يظهر بعض الكُتاب والنقّاد وهم يرفعون شعار “كفى مصطفى سعيدًا”. يطالبون القارئ العربي، والسوداني خصوصًا، بأن يطوي صفحة موسم الهجرة إلى الشمال، ويكفّ عن الدوران في فلك شخصية ابتكرها الطيب صالح قبل أكثر من نصف قرن.
يُقال إن مصطفى سعيد “انتهى”، وإن المثقف العربي مدعوّ للتخلص من هذا “العبء الرمزي” والانطلاق نحو أسئلة الحاضر. لكن أيُّ حاضرٍ هذا الذي تُفتح بواباته بتناسي أكثر شخصياتنا الأدبية عمقًا؟
مصطفى سعيد لم يكن بطلًا، بل سؤالًا
مصطفى سعيد لم يُخلق ليكون نموذجًا يُحتذى، بل معضلة تُفكّك. رواية موسم الهجرة إلى الشمال لم تكن يومًا نشيدًا وطنيًا، بل مرآة لما لا نحب أن نراه في أنفسنا:
خيانة الذات باسم الثقافة
الاغتراب رغم العودة
العنف المختبئ تحت قناع التفوق
فمن يرى أن شخصية كهذه “استهلكت”، فهو يفضّل القشرة على البنية، والصورة على التشريح.
“البحث عن مصطفى سعيد” ليست ارتدادًا
حين يكتب عماد البليك في روايته البحث عن مصطفى سعيد (2025)، فهو لا يُعيد إنتاج الأسطورة، بل يُقوّضها. يعود إلى ظل مصطفى لا ليُمجّده، بل ليسأله: “لماذا ما زلت هنا؟”
في شخصية محمود سيد أحمد، نرى مثقفًا سودانيًا يعيش ما بعد الثورة، في وطن انهارت فيه الثورة والدولة، ويجد أن شبح مصطفى سعيد لا يزال في كل مكان. هل هذا تكريس أم مواجهة؟
البليك يُدرك أن مصطفى سعيد لم يُدفن، لا لأنه خالد، بل لأن ما أنجبه لم يُدفن:
علاقتنا الملتبسة بالغرب
هشاشة الهوية الوطنية
تواطؤ النخبة مع الخراب
من يطالبون بالتجاوز، لا يملكون ما يتجاوزونه
أسوأ ما في هذه الدعوات هو أنها لا تُقدّم بديلًا. تطلب التجاوز باسم الحداثة، لكنها لا تصنع رموزًا جديدة. تطلب القطيعة مع الماضي، لكنها لا تمارس سوى القطيعة مع الوعي.
إن من يطالب بإغلاق باب مصطفى سعيد، غالبًا لم يقرأ الرواية قراءة تأملية، ولم يقرأ عماد البليك، ولم يفكر في أن الشخصيات الأدبية الكبرى ليست “أعلامًا وطنية” نرفعها أو نُنزلها، بل نصوص مفتوحة نعود إليها لنفهم أنفسنا.
كل جيل يكتب مصطفى سعيده
مصطفى سعيد لا يُستهلك، بل يُعاد تأويله.
الطيب صالح كتبه في زمن ما بعد الاستعمار
عماد البليك يكتبه في زمن ما بعد الثورة والحرب
وربما سيأتي كاتب ثالث يبحث عنه في زمن ما بعد الدولة
الشخصيات الكبرى في الأدب—مثل هاملت، دون كيشوت، راسكولينكوف—لا تُترك، بل تُعاد قراءتها في كل منعطف. فلماذا يخجل العربي من أن يحمل هذا العمق أيضًا؟
خاتمة نارية
كل من يظن أن الكتابة عن مصطفى سعيد “موضة قديمة” أو “لا تلزمنا اليوم”، لا يرفض الماضي، بل يهرب من مواجهة نفسه.
أما مصطفى سعيد، فهو باقٍ—لا لأنه انتصر، بل لأن الهزيمة لم تحل.