مصطفى : ما يزال يمشي وسط جموع التغيير (3/2) 

في الفترة من بداية الثمانينات حتى نصفها حدثت تحولات كبيرة في حياة الراحل. فقد شهدت وفاة والده، وشقيقته مريم، ومقاطعة شعراء بعينهم له، والتي كادت أن تدمر شهيته للغناء. ولكنه في الديم سرح في خلوته مليًا. لا يلتقي إلا أصدقاء مقربين. وأثناء خروجه من هذه العزلة انتابه تحول في فهم فلسفة الحياة، ومهد له هذا تعميق رؤيته لدور الفن في التغيير السياسي. 

وساعتئذ تبادل الأفكار مع زملائه في المعهد، واستغرق لاحقاً في قراءات متعمقة سيما أنه كان معلماً. وكنا نلحظ حين نزوره أن في سريره تتبعثر كتباً كثيرة. 

وفي هذه الفترة تعمقت علاقته مع مبدعين، وزملاء أقرب لتبني مفاهيم يسارية. وهناك التقى بشعراء منهم هاشم صديق، وقاسم أبو زيد، ويحيي فضل الله. 

وخارج المعهد كانت قد تعمقت علاقته مع أزهري محمد علي، وسيف الدين محمد صالح، ومحمد طه القدال، وصلاح حاج سعيد، ومحمد المهدي عبد الوهاب، ونجاة محمد عثمان، وأبو ذَر الغفاري، ومحمد الحسن سالم حميد، وحافظ عباس.

ومن هنا كانت انطلاقة مرحلته الثانية التي تميزت بالمعالجات اللحنية لكم هائل من القصائد. إذ استهل محاولته اللحنية بأغنية (المسافة) وبعدها أتت أغنيات (يا ضلنا) و(يا مطر عز الحريق) و(قولي الكلمة) و(ياسر مكتوم) و(صابرين) و(طوريتك في الطين مرمية) و(ما بين زمنا متمنيهو) و(ماني غرقان في التمني) و(في عيونك ضجة الشوق والهواجس) و(ولا نحنا مع الطيور) وبجانب أداء هذه الأغنيات نجده قد ركز على أداء أغنيات محددة من خلال مرحلته الأولى: (الشجن الأليم) لملحنها محمد سراج الدين، و(لمحتك) لبدر الدين عجاج، و(مهما هم تأخروا) لناجي القدسي. 

وفِي أقل من عقد من الزمان بدأ الجمهور يحفظ أغنياته فيما صار يؤدي حفلاً جماهيرياً يومياً، وأحياناً حفلين. وصاحب مصطفى ذلك بجلسات الاستماع التي لم يسبقه فيها فنان. إذ كان يقدم مجموعة من الأعمال لجمهور مفتوح، ويعقب ذلك نقاش حول جوانب الأغنيات نصًا، وموضوعًا، ولحنًا. 

وقد ساعده الحوار المنعقد على الهواء الطلق على استبانة رؤى، وأفكار، المستمعين، والتنظير حول مشروعه الغنائي الذي لم يتصل بالأداء فقط، وإنما أيضًا بدور العملية الفنية، وقدرتها على دفع المجتمع نحو قيم الحق، والخير، والجمال. وما يلاحظه المرء في تلك الفترة أن مصطفى كان يصدر عن ثقافة عميقة ومعرفة مدهشة. 

وكل ذلك ناتج عن نهمه في التزود بالمعرفة. ويقول صديقه الشاعر محمد المهدي عبد الوهاب أن مصطفى “كثير الاطلاع، وغالبا ما يميل إلى أمهات الكتب. وإذا استلف كتاباً أعاده (مُجلّداً). 

موسوعي الاتجاه في المعرفة. يقرأ كثيراً في السياسة، والاقتصاد، والنظرية الاشتراكية، وتاريخ البلدان، يحب الشعر، والروايات، والمجلات الدورية. ولا يناقش أمراً إلا بعد العلم به. 

لا يتردد في استفسارك عن ما لا يعلم، لكنه بعد ذلك، وهنا تكمن جديته، يسعى ويحصل على الكتاب الذي يوفر له معلومات أوفى. 

مهذب عف اللسان، حريص على انتقاء كلماته حتى لو كان غاضبا.. وبموته: فقد السودان فناناً حقيقياً ذا مشاعر فياضة واهتمام حقيقي بوطنه ومواطنيه..فقدت قوى الخير والديمقراطية والاشتراكية نذيراً ومحرضاً بارعاً).

وبينما كان نجم مصطفى يسطع كل يوم، وتتطور أفكاره اللحنية، ويتسع جمهوره، كان القدر يترصده. 

ويقول الموسيقي عبدالله محمد عبد الله فلوت إن تلك هي أيضاً (الفترة التي بدأت فيها معاناته من العلة التي لازمته طويلاً، ذلك التشوه الخلقي في كليتيه، والذي عصف باكرًا بحياته الخصيبة، رغم كل محاولات العلاج والجراحة. 

وهي – أيضاً – الفترة التي قام فيها مصطفى برحلة الاستشفاء الأولى إلى مصر ليعود مستوثقاً من أنه يعاني من مرض عضال، عازمًا على التمسك بحياته، ورسالته، إلى آخر رمق له. وفوق ذلك كله هي الفترة التي تعرف خلالها إلى من أصبحت شريكة حياته، وأم طفليه سيد أحمد وسامر، السيدة بثينة نصر).

Exit mobile version