حَسَـن عُمَـر خَليفَـة.. حِـينَ تَجْـري المَقَــادِير

محمد عبد الماجد

عندما التحقت بالعمل في جامعة الصحف الرياضية صحيفة “قوون” في عهد ربانها الماهر الأستاذ الكبير رمضان أحمد السيد، صاحب المدرسة الخبرية المُتفرِّدة، ورائد الخبر المخدوم، والذي تحصل عليه بعد جهد وعرق، كنت حينها أتوكأ رويدا، رويدا، العمل في “قوون” كان مثل عقد العمل في الخليج، وكان أي صحفي يتمنى أن يلتحق بهذه الصحيفة، كان الزميل حسن عمر خليفة وقتها يعمل في الصحيفة، وكان واضحاً من حركته بين المكاتب ودخوله لـ”اللاب” وهو يحمل أوراقاً، يراجع بعضها ويرمي بعضها في سلة المهملات، ثم يخرج وهو يحمل صفحات للمراجعة، إنه يُحظى بثقة كبيرة في الصحيفة، ليس من رئيس التحرير وحده، وإنّما من جميع العاملين بالصحيفة بما في ذلك (حليوة) بائعة الشاي والزلابية، والتي عرفت أن تصنع من زلابيتها منتدىً اجتماعياً وثقافيّاً يلتقي فيه رُوّاد الثقافة في كل مساءٍ، وقد كان حسن عمر خليفة أهلاً لتلك الثقة يُحظى بها من الجميع، رغم أنه وقتها كان خريجاً جديداً من كلية الآداب جامعة الخرطوم، وخريجو تلك الجامعة وقتها كانوا يغادرون البلاد أو يشتغلون في وزارة الخارجية، ومن يقبل منهم أقل من ذلك يترفّع عن العمل في صحيفة رياضية، وذلك لأنّ درب الصحافة طويلٌ وشاقٌ، والصحافة عُرفت أنّها مهنة التعب والنكد، وخريجو جامعة الخرطوم ليس لديهم صبر بعد تخرجهم لكي يصبروا من جديد حتى يثبتوا وجودهم وتُخصّص لهم مرتبات ويصبح لهم اسم، فقد نفد صبرهم في الدراسة ـ حسن عمر خليفة نجح في الإعلام في فترة وجيزة، وأصبح له اسم، وارتبط اسمه بصحيفة “قوون” وارتبط اسمها به، وأحسبه من الذين أحدثوا نقلة في أخبار الصحف الرياضية التي كانت تقدم بشكل تقليدي، كما أزعم أن حسن عمر خليفة استطاع مع آخرين نحفظ جهدهم في هذا الجانب، نقل نجومية الصحفي الرياضي من العمود إلى الخبر ـ هذا طبعاً دون أن ينقص من نجوم كتّاب الأعمدة شيئاً، لأنّ كثيرين نجحوا في المحافظة على نجوميتهم ـ لكن الذي أذكره جيداً أنّ حسن عمر خليفة أسّس لنجومية كاتب الخبر والقائم بالتغطية الصحفية والمرافق للبعثات الرياضية، وحتى لا أهمل أو أغفل حق الآخرين ـ أقول إنّ حسن عمر خليفة فعل ذلك مع آخرين، ولا أذكر هنا أسماءً حتى لا أسقط أحقية البعض، ربما يكون لهم من ذلك نصيب الأسد.

 

دخلت لصحيفة “قوون”، وأنا عادة علاقتي بالصحف الرياضية لا تتجاوز حدود موظف الاستقبال، ظناً مني أنّ تعاطي الكتابة الرياضية يفضل أن يكون من على البُعد، رغم إني كنت أجلس في مكاتب الصحف السياسية، وكنت أتعاطى مناصبها وانتظر فيها حتى ذهاب الصحيفة إلى المطبعة وطباعتها وتوزيعها ـ رياضياً كنت بعيداً عن ذلك الضجيج.

غير إنِّي في صحيفة “قوون” لا أستطيع أن أنسى الراحل أحمد الحاج مكي الذي كان يدفعني إلى الأمام حد أنه كان يمكن أن ينتظر في صبر العمود حتى الثانية صباحاً، وكان يحتمل في جلد أن تصحح له كلمة في العمود حتى قبيل الفجر بلحظات، كان يتقبل منا ذلك في فرح وسرور، وهو يؤمن بأن الخبر (الضجة) يأتي متأخراً، لذلك كان ينتظر الخيوط الأولى من الفجر قبل أن يدلف بالصحيفة إلى المطبعة وهذه هي مدرسة رمضان أحمد السيد ـ أحمد الحاج كان من الذين يمكن أن يلاحقون الخبر وإن كان فكرة أو حلماً في رأس المصدر، وكان يمكن أن يطارد العمود ولو في البيت ـ كتبت عن أحمد الحاج بعد رحيله، لكني مازلت أحجز عمود رثائه في تلفوني، متمنعاً، أو متعشماً في أن يضرب التلفون ويقول لي: وين العمود؟ ـ حتماً سوف أنشر عمودي عنه عندما أتقوى على ذلك، وأجد في نفسي القدرة على النشر.

 

بعض الأحزان لا نبوح بها، لأنّنا مازلنا لا نقوى على الجهر بها.

وأحمد الحاج هذا، أغالب في نفسي وجعها، كلما انتصر الهلال، أهرع إلى التلفون ليحدثني عن انتصار الهلال، فهو له طريقته الخاصة في ذلك.

 

في “قوون” أيضاً لا أستطيع أن أنسى حسن عمر خليفة، برشاقته وخفة ظله وهو يتنقّل من صفحة إلى أخرى ـ ولا أنسى له أن فمه كان لا يخلو من أغنية النعام آدم (الزول الوسيم في طبعهُ دائماً هادئ.. ومن اوصافو قول أسكرني هات يا شادي.. من حور العيون احتار غزال الوادي الخد كالزهور تلقاهو دائماً نادي).. كان يترنم بتلك الأغنية بين ردهات المكاتب. وأنت عندما تهتم بشخص تحفظ عنه تلك التفاصيل الصغيرة، وعندما تُفضِّل شخصاً تفعل ذلك بحب.

 

هكذا كان حسن عمر خليفة وهو يتنقّل بين مكاتب الصحيفة، من مكتب رمضان إلى مكتب أحمد الحاج، ومن مكتب أحمد الحاج إلى مكتب محمد إبراهيم كبوتش الدينمو المحرك، ومن كبوتش إلى لاب التصميم، كان حسن شعلة متقدة، ونحلة لا تهدأ، يبحث عن التميز حتى في سلة المهملات.

 

في “قوون” لا تستطيع أن تتجاوز الصفحة العالمية و(تشاهد اليوم)، فقد كان فخرالدين مضوي توقيتاته عن المباريات لا تُخيّب، يأتي لك بتوقيت أي مباراة تلعب في الأرض في هذا اليوم والقناة الناقلة، ويكاد أن يضع لك منبهاً لموعد المباراة، إذا نسيت ذكّرك فخر الصحافة السودانية.

 

تشاهد اليوم كانت أهم عند القراء من الأعمدة ومن الأخبار، إذ تجد القارئ حينما يشتري “قوون” أول ما يفعله هو أن يذهب إلى الصفحة العالمية وتشاهد اليوم.

 

وبرز في تمحيص المواقع العالمية (هدهدها) عبد المنعم عبد الحي حينما كان يأتي منها بالنبأ العظيم، في زمن كان فيه التلفون ما بدخل ـ منعم يقدم الآن أفضل المحتويات على الشبكة العنكبوتية، ويقدم مادة محترمة، تسد حاجتك في الأخبار والتقارير عبر (سودافووت).. أبسط ما يمكن أن تصف به هذا الموقع هو أنه موقع (مُحترم).

 

عبد المنعم عبد الحي حالة غريبة في الصحافة السودانية، لا يحب الأضواء، ويكتب دون أن يبرز صورته أو يكتب اسمه، كما نفعل نحنُ، رغم أنه يقدم محتوىً مختلفاً ويحقق خبطات صحفية نسميها نحن السبق الصحفي.. أعطوا هذا الاسم حقه، فهو عنوان للنجاح.

كذلك لا أنسى صفحة دوريات ولاية الخرطوم التي تجد فيها خبر أي مباراة لُعبت أمس أو تلعب اليوم أو تجرى في الغد، نجوم الثانية، وهدافي الأولى وحكام المباريات، كل التفاصيل يقدمها لك الجيلاني عيسى، الصحفي الذي يكتب الخبر بعد متابعة شخصية له على أرض الواقع، الجيلاني لا يأتي بخبر بالتلفون، يتابع كل المباريات من الملعب، وتجده يتنقل من ملعب إلى ملعب في عز الهجيرة وبالمواصلات العامة، لمتابعة جزء من المباراة في الخرطوم، ثم الانتقال لمتابعة جزء آخر لمباراة أخرى في أم درمان، يفعل ذلك في العصر وفي المساء.

 

ولا نغفل فضل الدكتور صلاح ود أحمد، الذي كان إلى جانب عمله الصحفي مشغولاً بالدراسة والتحضير.

 

سأعود لأكتب عن جامعة “قوون” في سانحة أخرى، مفتي وكبوتش وكمال بخيت، ومعاوية صابر وعبد الله يونس ومحمد دفع الله وهاني عبد الله يونس وإبراهيم الجيلي وأيمن حسب الرسول والراحل عبده قابل مدرسة الإحصاء والأرشفة، وكل الزملاء الأجلاء إلى عهد طلال مدثر الذي أضاف وعمر بشاشة أفضل سكرتير ومدير تحرير في اعتقادي شغل هذين المنصبين في الصحافة الرياضية والاجتماعية، ثم قسم خالد وياسر عائس وخالد عزالدين الصحفي (الرقم)، وعاطف الجمصي تباعاً وجيل الشباب الطاهر صالح والجزولي، والشاب الجميل حامد، وكل الزملاء… ولا أنسى دور المصممين والمصححين التي قامت “قوون” بجهدهم.

 

تسعدني نجاحات الزملاء جداً، ربما ذلك يسد عندي رمق أنّ ما فشلت فيه نجح فيه غيري، فأشعر أنّ نجاحهم نجاحي وأصل بذلك حد الغرور.. وأغلب الذين خرّجتهم “قوون” يُحقِّقون الآن نجاحات كبيرة وإن تفرّقت بينهم المنابر.

 

حسن عمر خليفة كنت أتابع مسيرته بعد “قوون”، أسترق النظر إلى نجاحاته هنا وهنالك، واختلس السمع إلى صوته وهو يكتب ويقرأ تقارير رياضية في قنوات “بي إن سبورت” ـ الصحافة (الصوتية) هي إحدى أكثر وسائل الصحافة تطوراً في الفترة الأخيرة، ومثلما كان حسن عمر خليفة متألقاً في الورق هو يتألق في الشاشة الآن بصوت مازال فيه حنينه ذلك (الزول الوسيم في طبعهُ دائماً هادئ).

 

في محفظة أي شخص ذاكرة خاصة تحتفظ لكل شخص بملامح أو تفاصيل مُعيّنة، أو موقف محدد، وأنا أحتفظ لحسن عمر خليفة بـ(الزول الوسيم في طبعهُ دائماً هادئ).. ربما لأنه هو بتلك الوسامة والهدوء الذي تغنى له النعام آدم من كلمات محمد سعيد دفع الله. 

مرة سافرت مع محمد سعيد دفع الله، وكنت أتحسّس مشاعر ذلك الشخص الذي أثبت علمياً أنّ الزول الوسيم في طبعهُ دائماً هادئ، ونحن كنا نظن خلاف ذلك، ثم كنت أتفقده بين الفينة والأخرى، لكي أرى ذلك الشخص الذي وصل درجة من البؤس (حتى الطيف رحل خلاه).. وهو الذي استعصت عليه الشوفة (لا شوفتن تبل الشوق ولا رداً يطمِّن)، دي شقاوة شنو يا ناس؟

مع كل ذلك فقد كان محمد (سعيد) دفع الله.

 

كل تلك الأشياء كان يُحرِّكها في النفس حسن عمر خليفة وهو ماشي استاد الهلال وهو عائد من استاد الهلال.

 

وأنا هكذا أراقبه من على البُعد ـ جاء يوم وعلمت فيه بتعرض الزميل حسن عمر خليفة لحادث حركة رفقة ابنته وهو في طريقه من الدوحة إلى الرياض ـ عادةً في مثل هذه الحوادث لا أحب أن أسأل، بل إنِّي أتجنّب أن أعرف حجم الإصابة وأخشى أن أخبر بما لا أحب، لذلك أظل بعيداً راجياً من المولى عز وجل أن تكون الإصابة خفيفة، وأن يلطف الله بأقدارنا وأنا سوابق (حوادث)، تعرّضت قبل ذلك شخصياً لحادث كبير فقدت فيه أعز الناس.. لذلك أعاني من فوبيا السؤال عندما يتعرّض عزيز لحادث حركة.

 

عندما وقع ذلك الحادث، هرعت إلى واتساب حسن عمر خليفة، لأعرف متى كان آخر ظهور له، وجدت في ملفه الشخصي ما عزاني ومنحني اليقين والقوة والصبر والثقة في أن يتشافى حسن عمر خليفة قريباً، وأن يتجاوز محنتنا فيه بصبرٍ وثباتٍ، وأن يُكلّل بالصحة والعافية، وأن يعود الصوت الذي ألفناه في تقارير قنوات “بي إن سبورت”، خاصةً عندما ينتصر المنتخب والهلال والمريخ.

 

الأعزاء قد تهمل التواصل معهم، وقد تشغلك الحياة، ولكن عندما يصيب مكروه عزيزاً لديك، تجد أنّ وجعك عليه يطوي المسافات، تشعر بقربك منه وأنت تتوجّع عليه ولو كان خلف البحار.

 

أكيد تسألون وماذا وجدت في واتساب حسن عمر خليفة بعد أن تحصلت على رقم الواتساب.

وجدت حسن عمر خليفة يكتب على بروفايله أحد مقاطع حاج الماحي التي يتبتّل فيها شوقاً في زيارة بلد الرسول عليه الصلاة والسلام وكلنا نتبتّل مثله عندما نسمع أولاد حاج الماحي يمدحون (بريدك يا البشير)، من هذه المدحة اختار حسن عمر خليفة تحديداً (حين تجري المقادير.. جنب سيدي القبير)، وهو مقطع ليس شائعاً في الواتساب ولا يلتفت إليه إلا حسن عمر خليفة، وقد جرت المقادير هنالك، حيث تعرّض حسن عمر خليفة لحادث حركة في الأراضي السعودية (جنب سيدى القبير)، وكان حسن عمر خليفة يكتب ذلك المقطع ويجعله شعاراً له، قبل الحادث الذي تعرض له ،ومازال المقطع كما هو، رغم إنِّي على يقين أن حسن عمر خليفة إلى الآن لم ينتبه لذلك ولم يربط بين ذلك القدر وتنبؤه بما حدث في شعار كان يحمله قبل الحادث في تلفونه وظل يحمله بعد الحادث.

المفارقة أن الذي كتب في حالته (حين تجري المقادير.. جنب سيدي القبير)، يكتب بصورة راتبة عمود (وقس على ذلك)، فما أروع واجل القياس عند حسن عمر خليفة.

 

نحن لا نختار أقدارنا ولكن نمضي إليها ـ النجاح في تجاوز الصعاب والمرور منها بنجاح، يتمثل عندي في (الرضاء) بها، أحياناً يكتب عليك مكروهاً، فتكتشف بعد حين أنّ الخير كله في هذا المكروه، هكذا تحدث القرآن الكريم، لذلك تقبل المصائب بصدر رحب، أنت لن تغير قدرك بالتضجر والغضب، أنت تُغيِّر قدرك أو تجعل الله يلطف بك بالدعاء والرضاء.

 

نسأل الله تعالى الشفاء والعودة أقوى وأفضل للزميل حسن عمر خليفة، وأن يتجاوز المحنة بثباتٍ، وقد علمت أن حسن عمر خليفة كان أكثر ثباتاً ويقيناً وإيماناً بعد الحادث الذي تعرّض له، وأن الحادث لم يزده إلّا قوةً وجمالاً.

 

أكتب عن حسن عمر خليفة وقد كنت أؤخر ذلك حتى عودته، وقد عانق صوته عبر قنوات “بي إن سبورت” الآذان وشنفها وشرفها، وعدت من جديد عندما أسمع صوته في التلفاز، ألوِّح بيديّ لأمنع حدوث أي صوت آخر، عدت أصرخ أمام التلفزيون “أسكت يا ولد”، فهذا حسن عمر خليفة يقرأ تقريره.

 

كُـن بخير يا حسن، ودُم بصحة وعافية، فإنّ أجمل ما خرجنا به من هذه الدنيا (أصدقاء) وأعزاء نحمل لهم كل الـوُد. 

 

متاريس

 

لاحقاً، سوف أكتب عن عبد الرحيم أرقي ومحنته التي تعرّض لها ـ أتمنى أن أتمكّن من ذلك، قد نلتقي في الغد إن شاء الله على ذلك. 

..

ترس أخير: افتــح الشُّـبّاك.

Exit mobile version