سيتذكر قرَّاء الأدب السوداني هذا الاسم طويلاً مثلما يتذكرون “ود حامد” للطيب صالح و”كافا” لإبراهيم إسحق، فالفضاء الروائي هو هذه الأرياف السودانية لكن يختلف الزمان وتتنوع الحكايا. نسجَ وقَّاص الصادق في أزقَّة هذه القرية وحيشانها ودكاكينها وحوَّاشاتها ومسيدها خيوط روايته البديعة (أيَّامُ سرقةِ الشِّيلات)، الرواية غنيَّة بالحكايات الصغيرة لحيوات سُكانها بحيث ترفد كل حكاية نهر الرواية الكبير؛ أحياناً تخشى على الرواية من تفرع الحكايات لكن وقَّاص يعيد نسج الخيوط ثانية، رواية غنيَّة بطبقات عديدة وشخوص كثُر تم بناء كلٍّ منهم على حدة ثم تشابكت مصائرهم بصبرٍ وأناة حتى لكأنك تبصرهم يمشون أمامك في صباحات الدردارة إلى حوَّاشاتهم في “التحتانية” وفي لياليهم إلى أعراسها ومسيدها وخمَّاراتها، تصوير سينمائي دقيق للشخوص والأيام القروية وكأنك قد نزلت يوماً بهذه الأرياف وعرفت أهلها وعشت معهم؛ أبو سمسم بتأمُّلاته في دكانه وحواراته مع الزبائن وتدوينه للأحداث، أستاذة علوية بجمالها وعنادها الفاتنين، العمدة وود بدر بصراعهما؛ صراع السلطة الموروثة مع السلطة الوافدة مع الحكم الجديد، اللَّمين وقصة إشاعة طلبه للزواج بزينب بت عبد العاطي وهي في حنَّائها استعداداً للزواج برجلٍ آخر، فأزالت على إثر هذه الشائعة الحنَّاء وخلعت الدبلة ثمَّ ذهبت لتغسل يديها ورجليها وتقول أنها موافقة على الزواج باللَّمين. للنساء في هذه الرواية حضورٌ قويٌّ ومؤثرٌ في مجريات الحياة في الدردارة، نساء قويات، آسرات يقلن نعم حين يقول الجميع لا، مثلما فعلت أم اللَّمين في حقل الشطَّة حينما طلب الغريب يدها فقالت نعم لتواجه حرب قرية بأكملها، ومثل أستاذة علوية التي يلجأ إليها رجال القرية في الملمَّات لصلابتها وقوة حجتها، فهي التي نزلت حفرة المسيد وواجهت الشيخ حين خاف الرجال ذلك، وهي التي أعادت النساء المطلقات إلى بيوتهن في أيام الطلاقات في الدردارة دون أن ينبس الأزواج بكلمة، وهي التي كتبت على سبورة المدرسة أنها تحب المصباح ود جابر؛ تحفل الدردارة بهذه الأيام الغرائبية الفريدة مما يضفي على الرواية هذا الجو من الفكاهة الماتعة، فهناك أيَّام سرقة الشيلات، وأيَّام الطلاقات وأيَّام أستاذة علويَّة وهكذا. الزمن في الرواية متداخل يمضي ثم يعود، تجد طرف حكايةٍ ما في بداية الرواية ثم لا تكمل هذه الحكاية أو يكشف تفاصيلها إلا في صفحاتٍ متأخرة، فالرواية التي تبدأ بتجهيزات عرس اللَّمين على زينب بت عبدالعاطي لن تكشف لك عن ما قالت زينب في حوش الرجال بثوبها الأبيض الذي يغطي جسدها بأكمله إلا في آخر صفحة.
تكشف الرواية عن تأثير مرحلة حكم الإنقاذ في السودان على البنى الإجتماعية لهذه المجتمعات الريفية ومدى ما أصابها من تهشم وتشوهات، كما توضح مدى تأثير الخرافة والشائعة في حيوات الناس، لكن لا يقوم وقَّاص بذلك عبر كتابة رواية سياسية، بل بتتبع دؤوب وصبور لأحوال الدردارة وسكَّانها وتعاملهم مع هذا الحكم الجديد بلجانه الشعبية ومعتمديه وعربات كشَّاته ورجاله النافذين وأئمة جوامعه في هذه القرى الصغيرة، رواية تمور بالأحداث وتذخر بالحكايات الغريبة والساحرة وتنهل من الفكاهة السوداء بذكاء كبير، فود بدر رجل الحزب النافذ والشيخ الحكومي لم يكن أكثر من صانع “قلوبيَّات” لصيد الطيور، يتلصَّص على البنات في ترعة “أم جزر” ويخدع بائعات الطماطم في الأسعار، بينما الأستاذ علي بأفكاره عن الديموقراطية يراه الناس كشيوعي خارج عن الدِّين، حتى أن محمد الحرامي المشهور يواسي نفسه بأنه أفضل من أستاذ على في الأخير؛ يحكي أهل الدردارة أن الحاج سالم سأل الأستاذ علي ذات مرة عن إلهه فأشار الأستاذ إلى شيء في الناحية الشرقية ظنَّه الحاج سالم شجرة الحراز العتيقة في حقل الطريفي فأخبر الطريفي بذلك في اليوم التالي من باب المزاح، فقرر الطريفي قطع الشَّجرة، بينما رأى ود سعدون أن الأستاذ علي أشار إلى الأرض فالملحدين مثله يعبدون الأرض لأنها تعطي الماء والكلأ، لكن أهل الدردارة رغم ذلك يعلمون أن الأستاذ علي شخص جيد لا يسكر مثلهم ولا يباري النساء مثلهم ولم يشاهده أحد في ماخور بخيتة ولا متلصصاً على النساء في حفلات حي القطاين رغم ما يثيره ود بدر وإمام الجامع ضده كحليفين في السلطة الجديدة، وفي اليوم الذي أعلن فيه الأستاذ توبته يوم عرس ود سعد أقام أهل الدردارة احتفالاً بالعرس والتوبة معاً فتداعت الكؤوس وسكر الجميع ورقصوا بما فيهم الشيوخ وإمام الجامع بحيث لم يفهم الناس ما قد تاب عنه أستاذ علي بالضبط.
قاوم الدرداريون السلطة الجديدة ما وسعهم وبطرائقهم الخاصة فقد سرقوا أموال بناء الجامع الجديد التي تبرعت بها الحكومة ليشيدوا بها أول مدرسة في الدردارة ثم حاولوا استرجاع الأراضي التي غُرِّر بهم ليبيعوها لكن المقاومة تداعت بعد ذلك لتنقسم القرية في الأخير وتحت وطأة الصراعات إلى ستمائة وخمسين قرية في مساحة لا تزيد عن الأربعة كيلومترات، بدأ ذلك باستبيان من العمدة لمعرفة رأي الناس في سوق الأسلاك المسروقة وسوق العرقي الناشئين في أطراف القرية ولتباين آراء الدرداريين قرَّر المعتمد تقسيم القرية الصغيرة لأربعة قرى بحسب مواقفهم من وجود هذين السوقين، الطريف أن ود الفوني علَّق بعد ذلك قطعة قماش على باب منزله مكتوب فيها أن بيته يتبع لقرية السليماب رغم أن موقع البيت في قرية السقتي بما أن أمر التقسيم قد بني على آراء الناس الشخصية، ليبدأ تقسيم جديد للدردارة غير ذلك الذي أرادته الحكومة فكل شخص إما رفع شيء أعلى منزله أو وضع لافتة أو أعلن ذلك في المسجد بعد صلاة الجمعة لتأتي النقطة المفصلية في أمر التقسيم حين قالت أستاذة علوية بأنها لا تريد الانضمام لأي قرية من القرى الأربع، فبيتها هو قريتها وهكذا تم إعلان أول بيت في الدردارة يسمى قرية وحده، ثم تحول كل بيتٍ في الدردارة لقرية قبل أن يعيد المصباح ود جابر توحيد هذه البيوت/القرى عبر مقترح الإتحاد الدرداري؛ المصباح من شخوص الرواية المهميين، فهو ابن القرية الذي يغيب عنها ثم يعود حاملاً معه الحكايات العجيبة عن الحياة في الخارج وجالباً الهدايا لسكانها المنتظرين، يقال له حاج المصباح رغم أن لا أحد رآه يصلي أو يتمشي في صحن مسجد، ناصع الجلباب دائماً، يربطه الناس بالملائكة بينما يربطه إمام الجامع بالشياطين، نظر إليه أهل الدردارة كمنقذ أخير يعيد ترتيب القرية التي مزقتها الصراعات، وحينما بدأ المصباح يعيد إلى الدردارة سلامها المفقود ويجبر كسورها كتبت أستاذة علوية على سبورة فصل السنة الخامسة أنها تحب المصباح ود جابر ليتغير كل شي بعدها في حياتهما وفي آمال أهلِ القرية وإلى الأبد كما قالت أم سمسم بينما رأى زوجها أن الأبد هذا وقتٌ طويلٌ جداً لا يمكن الجزم به.
كانت لي تمنيات هنا وهناك حول الرواية مثل أن يستند الحوار على اللغة العامية لأنه تراوح بين الفصيح الغالب والعامية أحياناً، وأن يقل الاستطراد قليلا” في بعض الحكايات لكن يبقى للكاتب نظرته وللقارئ نظرته.
أيام سرقة الشيلات رواية بديعة ستأخذ موقعاً متميزاً في مكتبة الأدب الروائي، صدرت الرواية عام 2024 عن دار “الكتب خان” للنشر والتوزيع بالقاهرة، وهي من 495 صفحة متوسطة الحجم. فازت الرواية بجائزة أنطون سعادة الأدبية كما حصلت على منحة إنتاجية من معهد جوتة الألماني ضمن برنامج إستعادة السرديات لعام 2024
وقَّاص الصادق، قاص وروائي سوداني، صدرت له مجموعتان قصصيتان؛ “حضور بلون الماء” عن دار “أوراق” عام 2015، و”كتاب الانتظارات” عن دار “نرتقي” عام 2023، “أيام سرقة الشيلات” هي عمله الروائي الأول.
* كاتب روائي