كأنما جاء الصوت من وراء الغيب، يخرج من جوف الغمام محمولًا على رياح الحذر، يقول:
“احذروا مسوخ الكلمة، فإنهم فتنة تمشي على قدمين، يفسدون المعنى كما يفسد السوس الخبز، ويُطفئون نور الصدق بنفثات من ريح مسمومة.
تراهم في أثواب بيضاء، لكن قلوبهم سوداء كالفحم، يلوّنون وجوههم بطلاء المديح، ويغمسون أقلامهم في محبرة الخيانة. هم قومٌ إذا وعدوا خانوا، وإذا كتبوا باعوا، وإذا ابتسموا غدروا.”
فأصغى الناس، وأشرأبت الأعناق، وارتجفت الحروف على شفاه الأمناء، إذ علموا أن الكلام ليس عن غرباء في بلاد بعيدة، بل عن ذئابٍ في ثياب الكتبة، جالسون في مقاعد الصحافة، يحرثون الحروف لغير الحقيقة، ويسقونها من ماء الرشوة.
ولادة في الظل
وُجدوا لا من رحم الفجر، بل من بطون الظلمات؛ أجنّة من طين الفساد، نُفخ فيهم هواء الخديعة، فلا عرفوا نور الحق، ولا اغتسلوا بماء الصدق. خرجوا من مسارب الحرف كما يخرج الجراد من شقوق الأرض، جائعين إلى الدمعة والدرهم، لا إلى المعنى.
أقنعة متعددة
تراهم في النهار بوجوه تلمع كالمرايا، وألسنة تقطر عسلاً، يباركون الجلاد ويهتفون للطاغية. فإذا أسدل الليل أستاره، سقطت الأقنعة، وانكشفت الوجوه التي لا تعرف الحياء؛ وجوه الطامعين، تسهر على موائد الذهب، تبيع الضمير كما يُباع الملح في الأسواق.
عيون من زجاج
هي عيون لا ترى، لكنها تعرف كيف تزن الأشياء بميزان الدراهم. إذا أشرق الصبح، بحثت عن فريسة، وإذا أقبل المساء، عادت بما جَمَعت، تعرضها في المزاد لمن يدفع أكثر. لا تلمع لرؤية الحقيقة، بل لوميض الرشوة.
ألسنة كالسياط
لسانهم لا ينطق إلا بأمر، جملة مدفوعة، أو عنوان مرسوم على ورق الخيانة. يضربون بها ظهور الأبرياء، ويجلدون بها الحق حتى يصرخ، ثم يغطونه برداء مديح للمجرمين. حروفهم ليست مدادًا، بل دمٌ مسفوك على مذبح المصلحة.
أقلام مرتزقة
هذه ليست أقلامًا، بل رماح للإيجار، طاعنة في خاصرة الحقيقة. يكتبون اليوم هجاء، وغدًا مدحًا، واليوم عدو الأمس يصبح ولي النعمة، إذا امتلأت الجيوب بما يطلبون. لا يعرفون ولاء إلا للذهب، ولا ينحنون إلا حيث تُفرش النقود.
أرواح متعفنة
كما يتغذى الدود على الجثث، تتغذى أرواحهم على رائحة الفضائح. يحيطون أنفسهم بشبكة من الأسرار، لا لينيروا بها الدرب، بل ليصنعوا منها حبلاً يلفونه حول عنق كل من يقاوم إغراءهم. عندهم المعلومة ليست حقًا، بل سلاح ابتزاز.
سقوط مدوٍ
وحين يأذن القدر، يسقطون من عليائهم الزائف سقوط الأصنام، تتحطم على الأرض صورهم إلى شظايا، وتتناثر أوراقهم التي كانت تُسمى مقالات، فينكشف للناس أنها لم تكن صحافة، بل بيانات مدفوعة بثمن الخيانة.
هل من يشتري ؟!
وسيأتي يومٌ، إذا بزغ فجْره، انكسرت أقلامهم كما تنكسر السيوف الصدئة في ساحة الوغى، وتهاوت أوراقهم المدفوعة في مهب الريح، فإذا هي هباء منثور. وسيُكشف الغطاء عن وجوههم، فإذا بها وجوه من لعنة قديمة، قد شاخت في الخيانة وتهرأت من كثرة السجود على أعتاب المال.
ويومئذٍ، لن يجدوا من يشتري كذبهم، ولن تفتح لهم أبواب القصور، ولن يمد لهم أحدٌ كف الرشوة. بل سيلقاهم التاريخ بوجهه الصارم، يضعهم في صفوف الخونة، حيث تُمحى أسماؤهم من ذاكرة الشرف، ويُكتب على قبورهم: “هنا دُفن مرتزق الحرف، بائع الكلمة، عدو الحقيقة”.
وسيظل الصادقون يروون الحكاية، لا كذكرى، بل كعظة، حتى لا يعود المسوخ إلى عرش الكلمة مرة أخرى.